القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

قراءة في كتاب: سماءٌ على أرضها: «قراءة في كتاب الشاعرة الكُردية مزكين حسكو: من صُرَّة الحياة»

 
السبت 11 ايار 2024


إبراهيم محمود

لا كتابة تستحق لقبها، إن لم تبتكر لها اسماً يميّزها عن غيرها. لا كتابة مجازة في الحياة تالياً، إن لم تظهِر ولاداتها المعطوفة على المغاير فيها. لا كتابة جديرة بالنظر في سيمائها، والإصغاء إليها طبعاً، إن لم تقدّم ما يبقيها مأخوذة ببصمتها لتي تختزن حياة أكبر من حياة عابرة. ولا كتابة أهلٌ لأن يجري التحري في سريان فعلها، وتفحص مكوناتها، إن لم تقم على المختلف، وما يثير في الخيال خيالاً، بأصوات تترى في بنيانها التخيلي والرهان على آت لا يُشك في أمره .

تأتي الكتابة ترجمان حياة بحكم المؤكد، ولكنها حياة من نوع آخر، لا حياة في الكتابة وهي تقبل التدقيق في خارجها، وإنما تستدعي تخيل داخلها وأي عالم ينبض، أي وجهة نظر تعزز حياة أكثر من كونها شخصية رغم ارتباطها باسم معين، وللاسم عمر، ونوع، وزمان ومكان، سوى أن الشخصية الناطقة: الكاتبة مؤممة مما هو عرَضي. في العرضي ثمة موت الكتابة ..


أتراني أطلت فيما هو مألوف بصيغة " التمهيد، التقديم، الاستهلال ، والتوطئة .." ومقصدي هو النظر قراءةً في كتاب سيري، ومن نوع مختلف، تحقيقاً لشرط الكتابة المقدَّم، ولصوت نسائي، لا يخفي رغبته المشرَّعة في حياة تؤخَذ مكاشفة، وكردي، ومن باب الدقة، كما هو المأثور في حركية الصوت:صوت كردستاني، تعبيراً عن رؤية جغرافية تحفر تاريخها في كامل خريطتها، حيث تتراءى بتنوع تضاريسها، وكائناتها، وسكنتها: الكرد هنا، وما يصلهم بغيرهم؟ 
تلك هي الكردية مزكين حسكو Mizgîn Hesko   ( 20 تشرين الثاني 1973 ) مواليد قرية " شلهومية " التابعة لـ"تربى سبي "، التابعة بدورها لمنطقة " قامشلو "، والتي تمتلك " عقاراً " أدبياً ، عبارة عن قرابة " دزينة " في الحقل الإبداعي: الشعري بجلاء، عقار مسجَّل باسمها، وينعطف عليها حقوقاً روحية تسمّيها دون غيرها دائماً.
امرأة ولدت باسم " أنثى " وسعى ولازالت تسعى لأن تكون امرأة لها كينونتها، وليس مجرد أنثى في مجتمع محكوم بما هو ذكوري، وما لهذا المسعى من فعل مقاومة لتأكيد ذات مشروعة كتابةً .
من هذا المتكىء الاستشرافي قراءةً، تلمستُ في كتابها الذي يعزز مزيجاً مما هو شعري: رهانها الحياتي، ولسان حالها كينونةً، ونثري، إشعاراً بتجربة قراءات نثرية، وما يأتي استجابة لرغبة نفسية لديها أيضاً، من هذا المتكىء، كان لكتابها المتكلم شعراً ونثراً، بعائده السيري: من صرة الحياة (Ji Bexçika Jiyanê, )"1 " والذي صدر  سنة " 2020 "
ماالذي أرادت قوله، ماالذي أرادت تسطيره المأهول بحياة فيها من الفرح ما فيها من الحزن، فيها من درج الليل ما فيها من درج النهار، فيها من الإحباط، ما فيها من رباطة الجأش، فيها من الأنوثة المنجرحة، ما فيها من الذكورة المبهرجة، كما تسمّي تجربتها التي تنفتح على حيوات مختلفة، دونها ماكانت شاعرة، ولا كان هذا الكتاب السيري، ولا كان اسمها الذي يعرّف بها دون غيرها" وثمة كثرة من مزكين هنا وهناك". إنما مزكين هنا، هي هذه التي سطرت باسمها هذا المقال، وهي التي عاشت تجربة بيئات جغرافية، وبشرية وطبيعية، من شلهومية المذكورة آنفاً، إلى " تربى سبي " إلى الإقامة في ألمانية، منذ عام " 1996 " ؟
السؤال الذي يتقدم بما هو مستحق، وما ينبغي أن يكون هكذا هو: ماالذي تحاول إثارته في كتابها هذا، ليقول ما لم يقَل في متن الكتاب أصلاً؟


في نشأة " صرة: Bexçika "
الكلمة لها تاريخها. لها سيرة حياة كاملة في مجتمع كان يعبّر عن تأمين حاجاته، وتأكيد هوية عملية ونفسية له بصيغ شتى. ومن ذلك " صرة " التي تضيء مزكين صفحتها، في احتواء لوازم تتباين في أدوارها ومهامها وتحولات أسمائها، ودلالاته الاجتماعية والفردية، وحتى مقامها المادي والمعنوي، إن أخذنا المادة المصنعة منها في الاعتبار.
( الصرة مصنوعة من بقايا القماش. وثمة من كانوا يزخرفون صرَرهم بالخرز، أو بقطع قماش من نوع الحرير مثلاً، لتظهر بألوان مختلفة.
وتستدرك قائلة:
الكرد، والنساء على وجه الخصوص، كانوا يحمون ألبستهم وثيابهم فيها، وحيثما توجهوا إلى مكان ما، أو في إضافة طويلة، كانوا يملأون صررهم بما كانوا يحتاجونه  طول مدة إقامتهم هناك. وحيث إن الصرة كانت تقوم بمهام حقيبة السفر . ص 10 )
وثمة مثال طريف حول الصرة، وهي تخص العروس التي تكون الصرة الخاصة بها دالة على نوعية مكانتها وما كان يتردد غناء في هذا السياق، وعلى ألسنة اللواتي يحضرن العرس:
افتحوا صرة العروس
دققوا فيها جيداً
لا تلوموا العروس
إلى نهاية الأغنية ..ص10. 
تأتي الصرة تعبيراً عما هو اجتماعي، بمقدار ما تكون ضامنة سرّ يخص الجهة المعنية، بمقدار ما تكون كشافة سر من الخارج، ما تقع عليه نظرة العين، كما لو أن الصرة كيان جسمي حي، وبظاهرها تشير إلى الداخل. ثمة إثارة للفضول لدى الناظر ولحظة استعادة تلك الفترة الزمنية، وذلك الوسط الذي تقوم به الصرة، عدا عن كونها ذات حمولة رمزية اجتماعية، فهي تحمل علامة دالة على مقام حامل أو حاملة الصرة، بصورة خاصة.
أكثر من ذلك، بما أن الصرة قماشية في مكوّنها، لا بد أنها تُراعى في مادتها، ليكون حمْلها سهلاً، جهة الإمساك بها" من مقبض معين، حين تشكل عقدة في أعلاها "، وأنها لا تكون كبيرة وثقيلة، طالما أنها خدمية، أو لا بد أن تتناسب وطبيعة المواد التي تودَع داخلها، وربما تلعب أيد فنية في تشكيلها تبعاً للمراد منها .
ومن ثم، يكون المحتوى تنويعاً، وشديد الصلة والقرب بما يجري استعماله لأغراض شخصية .
وهو ما رأت فيه مزكين بُغيتها، لتحيل الصرة القماشية ذات النعومة واللدونة وقابلية الزركشة والجمال والتحمل، إلى خاصية ورقية أو كتابية، تسمح للكلمات في أن تنتقل من حيّز التخيل أو الملفوظ والمسموع إلى نطاق الكتابة، حيث يكون الكتاب عينه نظير الصرة، وما في الصرة هذه من تنوع أغراض شخصية، عائلية أحياناً، يجد حضوراً له في هيئة كتاب: الكتاب الصرّة، والمثار طيَّ الغلافين، طي العنوان" عقدة الصرة " حيث يوجز ما هو حياتي، وفي مناح مختلفة، إنما يوجَّه الكتاب: الصرة إلى الغد، إلى قراء لا يعرَف عنهم أي شيء، توجههم رغبتهم صوب معاينة كتاب: صرة من هذا القبيل، وما يستجيب لمكنوناتهم كذلك، كما لو أن الحياة تمضي على الكتاب الصرة، وعلى قدْر أهلية الكتاب مما هو معزَّز إبداعياً ومختلفاً، يكون ضمان استمرار الأثر وحفاوته.
وهي التي تؤكد مثل هذه الاستعمارة " الصرَّتية " ليكون الكتاب صرة من تجربة تستغرق أزمنة وأمكنة، وما يلونها هو ما جاء مخاض رؤية حياتية، حيث تقول:
( ما تحسسته وتنبهت له، أنه في السياق نفسه، تجري متابعة نظرات، رؤى ومتابعات وبقوة وتقبلها. هكذا قررت، أن أصل ما بينها، وأنشرها في كتاب واحد، ولهذا أيضاً، لكي أميّز ما بينها، حيث سمّيتها:
من صرة الحياة..
في الصرة عينها، ثمة نظرات، مواقف، وتعابير لي، بعضٌ منها من تجاربي، وبعض منها من أقاصيصي المباشرة من حياتي ، حيث أصوغها باقتدار، وفي الوقت نفسه أحميها.
الصرة مفتوحة ومغلقة، محدودة، ولامتناهية، رقية وسميكة، صائتة وصامتة.. حيث يتوقف كل ذلك على نباهة القارىء، على مدى انفتاحه على نفسه، ورؤية الآخر داخله، والاعتراف بمناقبية كتابة تحمل توقيع اسم، سوى أنها في جريان " مائها " تقدّم اسمها جمعاً لافتاً في تنوعه..
أحملها،مثل حرير خفيف الوزن، إنما بمعان عميقة وثقيلة، على أمل أن جيلاً محباً لكرديته، سوف يقبِل عليها ذات يوم، ويستفيد من تجربة هذه المرأة الشاعرة والكاتبة، ليشرحها من جديد،وتصبح مجالاً للنقاش، والتقويم والتعاطي. إن صرري، جانبٌ من صميم حياتي..ص10 ).
وهو ما يؤكد عليه كاتب يشهد على غنى علاقات كهذه، أي " علي كُوردَلي . ص7 "، ويأتي ذلك في كلمة الغلاف بالذات، تجاوباً مع الرمزية المتخمة بالإشارات في الكتاب بدءاً من عنوانه..
ليس في مقدور أي قارىء، أو ناقد هنا، أن يساجل مزكين في حمولتها الحياتية، وما في حياتها من حيوات، وما في هذه الحيوات من إثمار تصورات ورهانات تمضي بها إلى المستقبل، وتحدد من يكون الجدير بقراءة" مكاشفة " هذه الصرة: الصرر التي تكون من لحم ودم، من مشاعر وأحاسيس، من مكبوتات وحسرات وجراحات وأمان، إنما متعة القراءة تكون في كيفية بناء هذا الكتاب، وما يثيره في متخيل قارئه، وما يوسّع فيه حدوداً ذوقية، ويحرره مما هو ذاتي ضيقي، وفي المنحى هذا، ما ينشّط فيه قواه النفسية، ليتحرى صرته ونوعيتها المعتبَرة فنياً..
لكلّ منا صرته، صرره، وهناك من يخاف من مجرد التذكير بها، هناك من يتباهى بها، وهناك من يتحفظ عليها، وهناك من يتردد في القبول بها، وإشهار حقيقتها، لأن الصرة هذه ليست وقتية، إنما تكون في مقام كشف حساب استراتيجي لمستقبل يعمل في أمره كاتبه، وخطورة الرهان أو التحدي، أو الجرأة المطلوبة لذلك.
الكتابة إمضاء على عراء يجري الحفر فيه لجعل مجهول فيه بعضَ مجهول صنيع المعني به، مخاض حياة أكثر من حياة يومية، حيث الكثافة، كما هي الخميرة ترفع من شأن المكتوب، أو تقلّل من قيمته، تبعاً للكاتب.


مزكين، فيما أقدمت عليه، تجمع بين ثنائيات، وتلغي الفواصل بينها، للكرد موقعهم الاعتباري، جرحهم النفسي، وجع الذاكرة الجماعية وتشرزمها بالمقابل، وأثر كل ذلك في جعْل صرتها نوعية. الصرة تتكلم مختلفاً هنا.
على مدار " 186 صرة " يمارس الكتاب ، كتاب مزكينـ: ـنا " السيري حضوره، في تنقلاته وتنوع هيئاته، في برّيه وأهليه، في المحفّز على التجاوب فرحاً معه، وفي التألم الروحي في مكان آخر.. فيكون طرب الأثر .
أي حين نكون إزاء هذا العدد الذي ينوّع في محتوياته " وثمة ما يؤازر بعضه بعضاً توضيحاً وتوسعاً" وما يتكرر بصيغة ما، تعبير، عن قهر نفسي، عن حسرة، عن وجع طاغ له فضيلة تعميق أثر الكتابة، وإبقاء النظرة أكثر مكاشفة لهذا المشدَّد عليه، والباعث على الألم أو التفجع كذلك.
الكتابة النوعية تلوّح بما هو تاريخي، والتاريخي مسنود بما هو جغرافي وحيوي.
ذلك الممكن تجلّيه في الصرة الأولى، لحظة الحديث عما تكونه القرية التي شكلت مهبط ولادتها الطبيعية:
( ولدت في قرية شلهومية، وأمضيت قرابة سبع سنين مع عائلتي هناك،ولاحقاً شيّدنا بيتاً في بلدة تربى سبي، ورحلنا إلى هناك .
ثمة أسَرٌ شكلت مجتمع شلهومية: بعضٌ من الأسر الكردية المسلمة،من عشيرة " سليمان: هارونان "، بعض من الأسر الكردية الإيزيدية، وبعض من الأسر المسيحية. 
أما عن شلهومية،فهي اسم مسيحي، ويعني: وادي الماء،، ويرجع تاريخ القرية إلى 1500 سنة،هذه المنطقة في تلك الفترة اشتهرت بينابيع المياه، وهي تقع ما بين نهريْ زورىفا وديرجيكى..ص13 ).
هذه الشذرة الجغرافية- التاريخية، معايشة لبيئة لا تخفي تنوعها الديموغرافي، وثراء علاقاتها، ولخيال القارىء، إن رغب في أن يثري " بيئته الحية والمحمولة " أن يرتقي بروحه ويتبين ما للتنوع هذا من مأثرة زمان ومكان، ودافعية على التفاعل مع المسكون أو المدفون والنابض بصمت في أعماق ما هو جغرافي- تاريخي، حيث يقيم الأنا- الآخر.
يا للصرة المركًّبة في الحالة هذه!
" يتبع "

إشارة
Ji Bexçika Jiyanê,ji weşanên Ser Sera, 2020, 220 r
من صرة الحياة، منشورات سَرْ سَرا، 2020، في 220 صفحة. وكل الإحالات المرجعية الواردة في النص تخص هذه الطبعة .

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 4.42
تصويتات: 7


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات