إبراهيم سمو ـ ألمانيا
وصلتني قبل شهور نسختي من الطبعة الأولى من"الأعمال الشعرية للشاعر هوشنك بروكا" المسماة "شاعر وأسماك محلّقة في ماء السماء" الصادرة عام 2020 عن دار( تموز ـ ديموزي) بدمشق. تقع "الأعمال"، التي تحمل صورة الشاعر على الغلاف، في 672 صفحة من القطع المتوسط، وتشتمل وفق الفهرسة على العناوين الرئيسة التالية:
0 seconds of 0 secondsVolume 0%
1ـ تثاؤبات من قباب منارات راقدة 1995
2ـ وقائع أربعاءات الغبار 1999
3 ـ الأخضر الأخير في جنازة الإله 2002
4 ـ متأخر المدينة... هكذا أنقط إلى صلاة اسمك 2003
5 ـ التي من التفاح وأبعد 2005
6 ـ المتفرقات .
اللافت ان "الأعمال "هذه، لا تعندل بالقصائد ـ الأصل، بل تنبعث من ترجمة تمخضت، لجهة المبنى والمعنى، عن مهارة وحرفية وموهبة، في نقل الأفكار والعاطفة والصور البلاغية، والايقاع واللغة والأسلوب، بوهج مقارب للذي ترنم به بروكا الشاعر، في لغته الأم. وقد يُقيَّض لقارئ اللغتين، أن يقبض على تشابه فيزيائي بين النصين: الكردي الأصل والعربي المترجم، ويحال، من ثم، إلى تفاعلات؛ بمعنى كيمياء روحية، سهلت أن ينقذف المترجم إلى الشاعر، ويغوص، من ثم، في ذاكرتيه الدلالية والعرضية، اللتين قرّبتاه، ولو يسيراً، إلى سمات الشاعر الفردية، بل مكنتاه من الإمساك، بتفاصيل فريدة من خبرات وتجارب ورؤى، تحصلها "الشاعرـ الباحث"، كمخزون معرفي ـ إنساني ـ شخصي، من البيئة والمجتمع والتعليم، والبحث والدراسة، وعليه، فجودة الترجمة تعزى هنا، وعدا عن ملاءة الترجمان، وثرائه المتقابل في اللغتين (الثقافتين)، كذلك إلى تعاون مخلص بين الشاعر عينه، والمترجم الذي أشار إلى "مدد معنوي "، و"شراكة ترجمة"، مفضفضاً: "ما كان لي أن أقوم بمهمة ترجمة هذه النصوص لولا مساعدة الصديق بروكا". وما قد يستميل، أن الباحث؛ إبراهيم محمود، هو من عمل على الترجمة، بل ويجتذب أكثر، أن دور محمود امتد إلى رصع "الأعمال"، بنقوش جديدة، وإضاءات مفيدة، و"رتوش" ماتعة، أسماها "التعليق والتعقيب".
هذه "الأعمال" تهزج، معرّجة بالمتلقي على عوالم الشاعر، فتعكس بانسيابية وسلاسة، طقوس الدلالة، وتضاريس المعاني، وانزياح العبارات، وتتضوع بلغة ترميزية، ليس فقط يتعاطاها إبراهيم محمود، بل يدمنها مثل هوشنك بروكا في جل نتاجاته، ولولا هذه الخاصية ـ الملكة، لاستعصى، ربما، على الترجمان، أن يعمق كل هذا العمق، ويفح، من ثم، لقارئ العربية، بمقذوفات قلب الشاعر الكردي وحممه المشفَّرة.
بروكا ورواية "غريبو": "الأعمال" ليست مجرد قصائد، بل حكاية أو تكاد تكون رواية، ويعزز ذلك إقرار سطّره الشاعر عينه، بخط يده في أعلى الصفحة الأولى، من نسختي الهدية: "العالم حكاية، الله حكاية، الإنسان حكاية، ... نولد في الحكاية، نعيش في الحكاية ونموت في الحكاية". لكن حكاية، أو قل رواية مَنْ؟!. لاشك أن المكونات (المواد)، التي تشكل "الأعمال"، تتباين في محتواها والمضامين، وتتباعد أزمنة كتابتها والإلهام الشعري أو تتقارب، وتختلف كذلك الأغراض والرؤى والأفكار والمقاصد، أو تتشابه، لكن "غريبو" يطفح وحده؛ إن قصداً أم لاشعورياً، عائماً على الأجواء قاطبة؛ بمعنى أن صرخات بروكا الشعرية هذه، دوت لا تلمح كلا وبعضاً، إلّا إلى حكاية، أي رواية، لكن ملغزة وشفرتها الكبرى، أو قاسمها المشترك هو "غريبو". فمن يكون "غريبو" هذا؟. على الرغم من التصريح المباشر، وفي أكثر من موقع بهذه المفردة، ومع محاولاته البلاغية في التواري، لم يتسنَ للشاعر أن يتَتَرَّسَ بالأقنعة، لاسيما وان "غريبو" انبرى ينقلب بكليته، ويشهد على الانتحالات، ثم يميط اللثام عن ظروف مراوغة، كـ"دياري فلكي" مثلاً، التي جازف شاعرنا يناور، متوسلاً بل مستهدفاً البلوغ بها، إلى خلط أوراقه، مستفيدًا من تداعيات اغترابية ـ إنسانية، بأوراق "ميرمح"*، والاستحواذ، من ثم، على معنى قدسي، يومض به مسمّى "غريبو" لذهن الأيزيدي. بروكا الذي لاح، وهو يفرّج عن واقع قهري، وقدر اغترابي أيزيدي ـ كردي جمعي، آثر أن يحبك بمنوال من إبهام، نسيج عمارته الشعرية، فتماهى؛ أو قل توارى متعمداً، في كثير من وجوه سرديته هذه، وراء معطيات أسطورية، لا تدلل في حقيقتها إلّا على "غريبو"؛ "مِيرْمِح"، ذلك اليافع الذي هب، وفق الميثولوجيا الأيزيدية، يجوب الكون (الأكوان)، مفتشاً عمّا يمكن أن يخلِّد عمره حياً. الشاعر بروكا، المقهور من هول اغترابه، لم تمكنه حيله البلاغية، من أن يكمن لمتلقيه، كما لم تسعفه مكابراته على الجراح الجمعية والفردية، حتى ارتعد يعترف: "كنت تبقى غريباً غريباً باستمرار: جهة غريبة،/ وطناً غريباً،/تراباً غريباً، /شتاتاً غريباً، /دما غريباً، /أربعاء غريباً، /صلاة غريبة، /إلهاً غريباً/... ... / وعاشقاً غـريباً".
بروكا بين عقدة "بنخت" و"سرخت" ولغز غريبو: بروكا، وهو يخصِّب شعرية وجعه، عن معايشات مضنية: "في بدايتك/بدايات مدماة/المكان ... /في وحدته/مقطّع، /والزمن ... /يركض/صوب النهاية/على النعش". لا يفوتنه أن يطلق لهب صراخه، على أديم فضاءات متنمرة، هتّاكاً به كل عبث قصدي، حيال الواقع والتاريخ والمكان، والحياة والإنسان والحب وحتى الله، مستفيقاً، من ثم، من غفوةٍ "لامنتمياً"، مثل "كُوْچَّك لالشي"، مغترباً كذاته التي تحولت، وهو في عقر "بنخت"ه، إلى طائر حبيس، يلهث كما "غريبو"؛ "ميرمح"، وراء سراب أو رؤى مكابِرة، لكن من شقاء: "في جيوبك/كان وطن/قد دوَّن أسطورة/من لهاث/ولم تعترف/ولو مرّة واحدة/على أشفاقك المغمومة، /حيث هيأت نفسها/لألمك". أقدار مشابهة لأقدار "ميرمح"، سهلت لبروكا أن يودع "وطناً غريباً"، إلى منفى قسري، أقل اغترابًا وأكثر إيلامًا، من شرخ عمقته بعبعة "خط القطار العثماني"، الذي فصم كمنشار، من تعسفه أرض الآباء والأجداد، إلى ما أصطلح عليه، بـ"ما تحت الخط"؛ أي "بنخت" وأُلحقت بسوريا: و"ما فوق الخط"؛ أي"سرخت" وانفردت به تركيا: "مذ سالت مشاغبات "الخط"، /صوب عشقك، /وتعلمت، /كيف تقطف الموت من آفاقها، /وتخدع وسع المغيب، /احلامك البيضاء". واضح ان صدمة "الخط "و"الحدود"، وما بعدها من تداعيات مزلزلة، أفرزتها "سرخت" و"بنخت"، أرهقت بروكا، وعموم كرده وأيزيدييه المكتئبين، بتراكمات نفسية جمعية، غير حميدة، وأكرهت/ه /هم، على تلبّس "غريبو" والسؤال الملِّح: أليس "غريبو" كذلك بعقدة؟
* "غريبو" لقب أطلق في الميثولوجيا الأيزيدية على فتى اسمه "ميرمح" الذي تغرّب (اغترب) بحثاً عن حياة مخلّدة في هذه الدنيا.
للكلام تتمة
-------------