- وفي ولادة المعلم " بوذا " من أمه " مايا ديڤي " كانت معجزة التجلي للإله " براهما " العظيم :
" – كان زوجها الملك يحترم قدسيتها . وإن روح الحقيقة المملوءة بالمجد ([1]) التي تتحلى بها وقوّة حكمتها التي تتزين بها جعلت فيلاً أبيض يدخل فيها .
- ولما علمت بدنو ساعة الولادة ، رجت الملك أن يرسلها إلى أهلها . فتقبل الملك " سود هوّدانا " طلبها بطيبة خاطر ، وهو الذي كان شديد الحرص على زوجته وعلى مولوده الآتي " ([2]) .
إذاً " مايا ديڤي " الجميلة ، النقية ، تمثلت لها الحقيقة الإلهية (البراهمانية) على صورة فيل أبيض ، ودخلها فحملت ، فكان المولود (بوذا) المعجزة ، الذي رافقت ولادته آيات باهرة وظواهر غير مألوفة في الأرض والسماء . وكذلك حالة التجسدات المتعاقبة في مذهب أهل الحق تماثل حالة " السمسارا" في الديانة البوذية ، ومثلها حالة التجلي (مظهريت) ، كنتيجة لعمل الإنسان في حياته السابقة ، هي قريبة الشبه بحالة " الكارما " البوذية ، التي هي تجلٍّ ظاهرٍ لحاصل التوازنات بين الأعمال وما يجزى بها أو عليها المرء في حياته الماضية . أما " النيرڤانا "البوذية فهي عند طائفة أهل الحق تقابل مرحلة بلوغ الكمال الروحي والانفتاح الدائم على الحقيقة المطلقة بعد عدد غير معدود من التجسدات والتجليات ، الأمر الذي يؤكد صلة المعْتَقَدَيْن ببعضهما بوجه من الوجوه التاريخية .
ومن الديانات الإيرانية القديمة ، الديانة الإيزِدية (اليزِيدية) التي تعود جذورها إلى " الميترائية " القديمة . وعلى الرغم من قدمها التاريخي وظروف الاضطهاد الصعبة التي مرت بها ورغم تأثرها الكبير بالدين الإسلامي فإنها مازالت حية تمارَس كدين مستقل بتعاليمه وطقوسه ، وما زال أتباعه – بالرغم من قلتهم وتبعثرهم – يمارسون شعائرهم المختلفة . وأهم ما يميز الدين الإيزِدي هو أنه دين كردي خالص ، ولم أعهد إيزِدياً غير كردي . وبهذا المفهوم نستطيع القول : كل إيزِدي كردي وليس كل كردي إيزِدياً .
إن المقارنة بين مذهب اليارسان والدين الإيزِدي من حيث المعتقدات والممارسات الطقسية قد تضعنا في مواقع الأحكام المزاجية التي ننأى بأنفسنا عنها قدر المستطاع . والأمر هنا يتعلق بموضوع بحثي ميثيولوجي ، أقصى ما نبتغيه هو الاستفادة ممّا بين أيدينا من مصادر مقروءة متداولة ، تؤمّن لنا قدراً من المقارنات المعقولة بين معتقدات أهل الحق من جهة وبعض الديانات الهند – إيرانية القديمة من جهة أخرى لاستيضاح الأصول التاريخية للمذهب (اليارساني) هذا .
في قصة الخلق ونشأة الكون تتقارب المفاهيم في الديانات الهند – إيرانية . ففي مذهب اليارسان الذي اعتبرناه من بقايا ديانة قديمة ، يخلق الله من جوهر ذاته الإلهية درة بيضاء ، يودعها قلب صدفة ويسكنها ! ثم يستقر في قاع المحيط البدئي زمناً طويلاً . ومن الدرة يخلق الكون وما فيه على مراحل . وفي " الڤیدا "الهندية يخلق " براهما " الأكبر من ذاته القديرة البيضة الكونية التي منها يخلق الكون ( الأرض والسماء ) . وفي " الأڤستا " الزرادشتية يخلق " آهورا مزدا " من جوهره النوراني البيضة الذهبية التي خلق منها العالم الكوني ، إن الشبه الواضح بين الدرة والبيضة من حيث هيئة الشكل ودلالة الرمز يؤكد على تقارب فكرة نشوء الكون في المعتقدات الثلاثة المذكورة . أما في الديانة الإيزِدية فإن التشابه في قصة الخلق مع أهل الحق ، يكاد يكون متطابقاً ، حيث يخلق الله من ذاته الإلهية درة بيضاء ويسكنها . ثم يدور بها على ظهر طائر فوق مياه المحيط البدئي أربعين ألف سنة ومن الدرة يخلق السماوات والأراضين وما بينهما .
وتتقاطع معتقدات الطائفتين (اليارسان و الإيزِدية) في أكثر من وجه وأكثر من من جانب :
- تعتقد الطائفتان بأن الأرض محمولة على قرني ثور ضخم ، والثور مستقر على ظهر حوت عظيم في مياه المحيط البدئي . وكلما تعب أحد قرني الثور نقل الأرض إلى القرن الآخر فتحدث الزلازل الأرضية . وفي عقيدة اليارسان أن الملاك " رمز بار" خرجت من الدرة وحلّت في جسد الخاتون " دايراك "والدة السلطان إسحاق . وأن الذات الإلهية في حلقة الدائرة الكونية الخامسة حلّت في السلطان إسحاق ، الذي هو تجسيد للحقيقة المطلقة . ومن ثم تجسّدت الملائكة في " الهفت – تن " و " الهفتوانة " بأشكال آدمية . وفي العقيدة الإيزِدية أيضاً تجلّى الجوهر الإلهي في دائرة الزمن الكوني الثانية في شخص السلطان " إيزي " ([3]) الذي يحمل الاسم الثاني للإله الخالق ، بعد اسمه الأعظم الذي هو " الله " . وتجسّدت الملائكة في هيئات بشرية . كما تجسدت مريم العذراء في " پیرا آفات " وفي " خاتونا فخرا " ( خاتونا فرخا ) .
الروح في المعتقدين خالدة لا تفنى ، تسمو في تجسداتها أو تهبط حسب أعمالها في الحيوات السابقة لكل تجسّد جديد .
- إن شخصية " تيمور " المغيب ، المنتظر في عقيدة أهل الحق قريبة الشبه بشخصية شرف الدين ([4]) المُخَلِّص المنتظر في عقيدة الإيزِديين .
فإذا تجاوزنا المعتقدات المتماثلة والمتلاقية إلى الطقوس والممارسات العبادية لوجدنا التطابق في كثير منها عند الطائفتين . فأكبر الأعياد وأهمها عند الطائفتين هو عيد الأضاحي والقرابين ، حيث الأتباع يتجمعون من كل صوب ، يحتفلون بالعيد على ألحان الأناشيد الدينية وأنغام الطنبور المقدس ، ويمارسون طقوسهم العبادية بشكل جماعي . ويسمى هذا العيد عند أهل الحق بـ " الجَمْ " ، بينما يسمى عند الإيزِدية بعيد " الجَما " ، واضح أن التشابه يبلغ درجة التطابق حتى في التسمية .
وكلمة (جما) مذكورة في شعر الملا الجزيري حيث يقول :
" موغبه چه يێن مه يفرۆش هه ر سه حه رێ تێن سه ما
باده خوران نۆش - نۆشْ مانه لـ دۆرێ
جه ما "
( Muxbeçeyên meyfiroş her seherê tên sema
badexuran noşî – noş mane li dorê
cema )
يقول الملا أحمد الزڤنگي ، شارح ديوان الجزيري في شرح كلمة جما : " كلمة كردية بمعنى الاجتماع " ([5]) وهكذا يشرحها الملا عبد السلام ناجي الجزيري ، الشارح الآخر للديوان . ولعلها مأخوذة من الكلمة المتداولة في الكرمانجية الشمالية (جَمْ) بمعنى عند ، مثل (cem hev li) بمعنى عند بعضهم . فإذا صح هذا المعنى فلا شك في أن كلمة (جَمْ) عند أهل الحق وكلمة (جَما) عند الإيزديين هما كرديتان بامتياز .
وهذا المعنى يعزز رأينا في ما ذهبنا إليه من أن المعتقدين (اليارساني و الإيزدي) كرديان وأنهما متفرعان من مصدر ديني واحد .
وكذلك الصوم في معتقد الطائفتين هو ثلاثة أيام . ويزعم أتباع الطائفتين إن الصوم عند المسلمين أيضاً هو ثلاثة أيام ، لكن الأمر اختلط عليهم نتيجة الالتباس الحاصل بين اللفظة الكردية للرقم ( Sê – 3 ) والرقم ( Sî - 30) ، أي أنهم سمعوا أيام الصوم (ثلاثين) بدلاً عن (ثلاثة) المفروضة والغريب في هذا الزعم المتداول هو أن أتباع الطائفتين يرونه (رغم كل المفارقات) باللفظ الكردي ذاته والمعنى ذاته .
وأكثر ما يلفت الانتباه في هذه المفارقة هو هذا التماثل الكبير ، الذي يبلغ حد التطابق في تقسيم المجمتع اليارساني والإيزِدي إلى طبقات اجتماعية هي بالأصل نتيجة إفرازات دينية ، أفرزتها طبيعة المعتقدين المتشابهين كما في الجدول المختصر الآتي :
في المجتمع اليارساني في المجتمع الإيزِدي - سيد مير
- پیر پیر
- مريد مريد
- ديدار كوچَك ( بصّار )
- كلام خوان قوال
ان الزواج بين هذه الطبقات الاجتماعية في كل من المعتقدين محرم والكتب المقدسة لدى الطائفتين هي الأخرى كبيرة الشبه ببعضها ، الأمر الذي وفّرت كل هذا التشابه ، وفي أكثر من موقع إيماني أو سلوك طقسي ، بين معتقدات الطائفتين . فكتاب " سَرانجام " ، أي خلاصة الكلام أو الكلام النهائي ، هو الكتاب المقدس الموحى إلى السلطان إسحاق ، وقد كتبه الپير موسى بريشته الذهبية وباللغة الكردية ( اللهجة الگورانية ) وهذه النسخة غير موجودة . وفي الكتاب ثلاثة أقوال :
1- هو مغيب ولم يحن وقت ظهوره .
2- هو مسروق ، سرقه أحد السياح البريطانيين أيام السلطان إسحاق .
3- هو موجود في إحدى الجامعات البريطانية ، وهو مصدر كل هذا التقدم العلمي والحضاري في بريطانيا وأوربا .
وهناك أناشيد و أدعية دينية مدونة في كتب تدعى " الكلام أو الدفتر " يتلوها أو ينشدها مختصون بحفظها ، يُدعون بـ " الكلام خوان " وفي الديانة الإيزِدية كتاب " مصحفا رش " ، وهو الكتاب المقدس لديهم . وهو الآخر غير موجود ، ويقال فيه ، إنه مسروق من مكتبة الشيخ " آدي " الشيخ (عدي بن مسافر) . وسارقه سائح بريطاني أيضاً ، والنسخة المصورة عن أرشيف أحد المتاحف الألمانية مكتوبة باللغة الكردية (الكرمانجية الشمالية ) ، ومعها نسخة من كتاب " الجَلْوة " . وهناك من يقول : إن النسختين مزيفتان والأصل مفقود . والأناشيد الدينية المسماة بـ " القول " ينشدها " القوالون " شفاهاً وهي تماثل " الكلام " و " الكلام خوان " عند أهل الحق .
إن هذا التشابه ، بل التماثل في أكثر من وجه من وجوه المعتقدين (اليارساني والإيزِدي) يثير فينا أكثر من تساؤل مشروع : - (هل من جذور مشتركة بينهما ؟! وفي أي عمق تاريخي يلتقيان ؟) .
- كل الذين بحثوا في الدين والميثولوجيا الإيزِدية قالوا : إن الإيزِديين أكراد انتماءً قومياً ولغة ً ، باستثناء قليلين كتبوا برعاف إيديولوجياتهم السياسية والقومية . أما أهل الحق (اليارسان) فالبحوث عنهم قليلة نسبياً . وفي الكتاب الذي بين أيدينا يؤكد المساهمون فيه على أن مذهب أهل الحق باطنية كردية وأن أهله هم أكراد انتماءً ولغةً . ورغم ذلك نسمع من ينفي صفة الانتماء الكردي عنهم و عن مذهبهم، جاهلين أو متجاهلين المؤكدات التاريخية والجغرافية التالية :
1- مع ظهور الشاه " خوشين " ([6]) في أوائل القرن العاشر الميلادي ظهرت بدايات المذهب في لورستان ، وهو من قبيلة " اللور " الكردية في كردستان الشرقية .
2- انتشر المذهب ببروز اسم القطب الروحاني ، سلطان العارفين ، السلطان " إسحاق " ( سيهاك ) المعجزة في " برزنجه " التابعة لحلبچة في كردستان الجنوبية في نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر .
3- لغة الكتاب المقدس " سَر انجام " هي الكردية (الگورانية) ، وكذلك لغة " الكلام " والأناشيد والأوعاظ هي الكردية بلهجاتها الجنوبية – الشرقية .
4- جغرافية منشأ المذهب ودعاته الأولين هي كردستان بمناطقها المحددة بناسها ولهجاتها وبيئاتها الكردية .
إذاً ، فالطائفتان ، بالرغم من التباعد االجغرافي والاختلاف اللهجوي بينهما ، هما كرديتان في انتمائهما القومي . وأي رأي غير ذلك هو مصادرةً للهوية الكردية كغيرها من المصادرات المسيّسة التي مورست بحق الكرد عبر تاريخهم .
إن أثر الدين الإسلامي في المعتقدين واضح وجليّ . في الإيزِدية بعد ظهور الشيخ آدي (عدي بن مسافر) في منتصف القرن السادس الهجري ، واليارساني بعد اعتناق القوم الإسلام بما يتوافق مع استعداداتهم الروحية المهيئة من قبل .
بعد كل هذه الإيضاحات صار من الممكن القول ، إن المعتقدين (اليارساني والإيزِدي) ينحدران من أرومة دين إيراني (كردي) قديم . ورغم مسيرتهما التاريخية الطويلة ، وتأثرهما الواضح بالأديان والمعتقدات الأخرى فما زالا يحتفظان بالعديد من وجوه الشبه والتلاقي في جوانب من مبادئهما وطقوسهما . الأمر الذي يؤكد ترابطهما التاريخي .
يشكل مذهب أهل الحق بروحانياته المدهشة وما كُتب فيه مثل " شاهناميى حقيقت " تراثاً أدبياً ودينياً ميثيولوجياً نادراً في الثقافة الكردية وهو بهذه الصفة التراثية يمكن أن يكون مادة غنية للدراسات المختلفة من إطروحات للشهادات العليا وبحوث مقارنة في المذاهب والأديان . كما يمكن أن يكون مدخلاً إلى قراءة أفكار بعض الصوفيين التجريديين وتصوراتهم عن الوجود ، أو معبراً إلى فهم المقاصد المبهمة في أشعار الموغلين في الرموز كالعريان بابا طاهرالهمذاني (اليارساني) في رباعياته وغيره .
لكن حقاً ما يؤسف له هو أن ، هذا الكنز ظل منسياً ، بعيداً عن ذاكرة أهله الحقيقيين ، يتناوله المستشرقون والباحثون الآخرون على أنه من التراث الإيراني (الفارسي) فيحققون فيه ، ويطبعون نتائج بحوثهم وتحقيقاتهم في طهران وباريس ، دون أيّة إشارة إلى علاقته بالكرد إلى أن اهتدى إليه الدكتور محمد موكري فساهم في إحقاق الحق وتفنيد ادعاءات المدعين ، مبيّناً أن الـ " سَرانجام " المقدس مكتوب باللهجة الگورانية الكردية ، وأن كل مقوّمات المذهب وممارسات أتباعه الطقسية تنطق بكرديته . فله ، للدكتور محمد موكري من قومه الكرد جميل الذكر بما ساهم وأسدى !
دحام عبد الفتاح
عامودا 21/6/2012
[1] - حقيقة الذات الإلهية ( البراهمانية ).
[2] -سامي سليمان شيّا : إنجيل بوذا . لبنان – بيروت ( 1991 ) صفحة ( 21) الفقرتان (3-4 ) . ( ترجمة عن الفرنسية ) .
[3] - هورامي يزدي : فلسفة الدائرة في الديانة الإيزِدية – ألمانيا – الطبعة الأولى (1999) – صفحة (30)
[4] - روجيه ليسكو : اليزيدية في سوريا وجبل سنجار – دمشق - (2007) – دار المدى – صفحة 68 – ( ترجمة أحمد حسن )
[5] - ديوان الملا أحمد الجزيري . حلب – طبعة ثانية (1987 ) . الجزء الأول صفحة 21
[6] - السلطان خوشين هو مبارك شاه ابن مظهرالله ، والدته جلالة .