غريب ملا زلال
دلشاد بهاء الدين ( 1974- السليمانية ) من الأسماء المهمة لا في مدينة السليمانية فحسب بل في عموم كردستان، إلتقيته أكثر من مرة في سيمبوزيوم السليمانية الثالث ( 03-10-09-2021 )، إن كان في مكان العمل و الورشة حيث كان المشاركون و الضيوف الفنانون يتواجدون كخلية نحل، أو في تلك الزيارة الجماعية التي قمنا بها إلى غاليري زاموا حيث يشغل مديراً له،
، زاموا الذي يعتبر من البيوت القديمة في السليمانية، و الذي بني منذ تأسيس مدينة السليمانية، أي يعود إلى أكثر من ( 130 ) عاماً، و يعود ملكيته إلى الكاتب الكردي إبراهيم أحمد والد السيدة هيرو إبراهيم عقيلة الرئيس العراقي الراحل مام جلال، من البيوت التي تحمل من العمارة القديمة الكثير ( نوافذها، أبوابها، حجارتها، شرفتها، صحنها ... إلخ )
كل ما فيها تعود بك عقوداً إلى الوراء متماهية مع رؤية القدامى للعالم و للإنسان و لنمطية سكنه، كل ما فيها تحرك الروح فيك و كأنك في محراب مقدس، فهذا الحرص على تحويل هذا المكان الجميل إلى غاليري وحده كافياً على أهميته في مسار تحولات الثقافة بأغصانها المثمرة جميعها و التفنن في سموه لإستنهاض المتلقي للإقتراب منها على نحو أكثر، و كان يشغل فضاءاته، أقصد فضاءات زاموا أعماله الموغلة بعيداً على درب البحث عن آفاق جديدة، و هذا ما جعلني أقترب من أعماله تلك أكثر، و كأنها تطرح لي نبوءتها الجديدة دون أن يرتد عنها ما هو مسكون بهاجس الإبداع و المحكوم بقلق البحث، فهو يعزز العمل دون أدنى مبالغة للإلتقاء بين التباينات الكثيرة من جهة، و بين المنحنيات المولوية، العشقية، بين الصلاة و الصوفية من جهة ثانية، و يعزز الكشف بوصفه السبيل إلى أصل التجلي، و إنفتاح على إحالات مفترضة، فهو مسكون بالإختلاف و لهذا يكشف النقاب عن روحه و هي تتموضع داخل مساحاته البيضاء، فنيران الرؤية تسبقه للتعرف على الجذور و الإمساك بها، فاللاحقيقة تتحول إلى حقيقة، و اللاحضور إلى حضور و كأنه يريد أن يثبت مقولة جاك دريدا بذلك، فالأحداث عنده مأزومة من الداخل على الأقل فلا بد من الخروج درامياً ليحدد ذاته، و هذا نوع من كمون الذات نفسه الذي لا بد من التدفق خارجاً، هي مشاعره بإنطباعات لونية فتكون أكثر رهافة و هي تمتزج بفرشاته و التي لا بد لها أن تلاقي طريقها إلى جمهورية البياض .
دلشاد بهاءالدين يشحن عمله بدلالات جديدة لها بعدها الرمزي إلى جانب بعدها الجمالي مكرساً معظم طاقته لإستكشاف عالم بصري يعرف تماماً أشياءها و موضوعاتها، فهو يتوجه بعينيه نحو مصدر الضوء و إلى تلك المناطق الأكثر تضاداً بينها أقصد بين الضوء و العتمة، و هذه إحدى العمليات التي تجعل ردود أفعاله لا إرادية، من جانبه على الأقل، و بها يكتسب مرونة حين ينظر و يقترب إلى / من أنماط بصرية مختلفة لها تفضيلاتها المتسقة، و هذه إمكانية يمتاز بها و تدفعه نحو إمتلاك جذور البناء الأساسية إن كان في الإدراك عامة أو في الإدراك الفني خاصة، ما يجعله في حالة من التأمل الدائم لا ليعيد الثقة التي قد تتدحرج أحياناً في تحديدات الوجود، بل لينزعها أقصد الثقة و يغرسها في عمقه و هذا شكل من أشكال إستعادة الوجود بوصفها لحظات مؤقتة و ضرورية في الوقت نفسه، بوصفها مجازات متوالدة عن أزمان غير عاجزة عن إفراغ نبضاتها، عن إعطاء الضمان للمشهد الذي حظي بالقيم العليا التي تتحدث عن عبقها تزامنياً مع ما يرسم و مع ما يحدث دائماً على السطوح من تفاهمات تكسر كل من البعد الزماني و البعد المكاني بين المتلقي و ما يشاهده و يسمعه من تلك التفاهمات على تلك السطوح، فبهاءالدين و في محاولاته لفهم العالم يبدأ بإعجابه بكل ما يمجد حياة الإنسان و بالدوائر التي يعوم فيها، و ما الأقواس و الحركات المائلة لخطوطه إلا ترددات لرؤيته تلك، ملخصاً بها فلسفته حول سؤال الفن، فهو عميق في روحه إلى حد الرعب، و لا ينسى أن يذهب نحو تأسيس رابطة لونية بين تكويناته المختلفة محققاً ذاته فيها، مستدعياً إنتقاءاته ليقصي بها نحو إرتقاء قواعدها التي تمنحه إمتيازاً خاصاً، و التي ستقوده بعلاقاتها و التي ستستوعبه و تستوعب إنفعالاته إلى فعل التنقل في الفضاء، إلى خلق حالة تواصلية تربط المرئي بالمتواري، و المحتمل بالمتحقق، فالأشياء الحافلة بالصور و الموضوعة ضمن إختياراته لا بد أن تقبل ما يأسرها و ما يجعله يحرر العين من قيود الموضوع و التأطير،فالمهمة المؤولة له محكومة بحركات قادرة أن ترسي دعائم سياقاته الخاصة، و يمكن النظر إليها بإعتبارها أفقاً نهائياً داخل مسار تأويلي يمكن الوصول إليه في نهاية الأمر كنقطة إرساء دلالية، و يعد هذا الأفق شكلاً نهائياً عليه ستستقر السيرورة التأويلية، و يمكن القول أن الأشكال التعبيرية المختلفة التي يفرضها نمط بنائه ما هي إلا إنبثاقات جمالية تتقفى أثر تلك السيرورة التي أُنتجت وفق دلالات معينة، و بفضل ترتيب الإشعاعات الضوئية و منابعها، بفضل حركتها و سرعتها و إتجاهها، فهو يرسم الفضاء ذاته المليء بأنماط قيمية هي في طور التوتر بين حالتي الإنبعاث و التلقي، و هذا يعني الإقرار بأن المساحة التي يرتادها بهاءالدين تشهد أسلوبه المستقل المبني على كشف مفرداته فيها، تلك المفردات التي تسمح له بمنح الضوء طاقة غير عادية طالما كان هدفه القبض على العوامل المبعدة بكل تجلياتها، و يمكن القول أيضاً بأن دلشاد بهاء الدين شغوف بالإقامة وسط الفراغات الغائبة بين ألوانه و تدرجاتها، شغوف بالمضي بمشهده بعد أن يشعل فيه نمنماته و نقوشه كنوع من رومانسية المكان و تاريخيته، بل كنوع من التقسيمات التي يقع قبلها ما هو مطموس و مغلق فيعلن عنها داخل عائلة فلسفته و بين سطورها هائماً في المكوث خارج الإختلاف و داخله، مظهراً نفسه حاضراً في الوجود، ملزماً بربط التاريخ نفسه بحلمه في أدق تفاصيله، شغوف بتجاوز مفهوم العمل المغلق إلى المنفتح على تأويلات لا نهاية لها، كل ما فيه يمنح مفاتيحه لمتلقيه بوصفه محفز لنفخ الروح فيه .
و الخلاصة أن مشاهد دلشاد بهاء الدين لا تفقد ذاتها، بل تعيد اكتشافها مرة بعد أخرى، إن كانت من خلال التمثل لتخيلاته التي يعمل عليها على نحو متزامن مع تعزيز و تدعيم ( الأنا ) و وجودها، أو كانت من خلال إستثارة الإنتباه و تولد التوقعات التي يسعى من خلالها إلى إشباعات جديدة دون أن تقع في قبضة الغموض أو ما يفقدها من مستوياتها الدلالية أو التركيبية .