أستعيد هنا الرأي الذي أورده باسيل نيكيتين، في كتابه ( الكرد" دراسة سوسيولوجية وتأريخية") والمترجم من قبل الدكتور نوري طالباني، سنة 1998، وهو يخص الألماني أوسكار مان، ومضمونه ، هو أنه يربط الأبيات الطويلة والقصيرة، وتنوع القافية، وعدم وجود الوزن أيضاً، وكذلك حالات الوقف، بالموضوع نفسه عند الكرد ( ص438)،.
وفي مكان آخر، يبدي ملاحظة، رابطاً بين السياسة والشعر ( إنهم في السياسة، شأنهم في الشعر، لم يستطيعوا أن يتجاوزوا المرحلة القبلية المبنية أساساً على الفردية وعدم الانتظام ..ص443).
هذه الملاحظة الثمينة، والتاريخية، كان يمكن الاشتغال عليها من قبله، حيث أن السائد في السياسة، هو المتلمَّس في منحاها القبلي العشائري، والذي يمنع بروز الذهنية الجامعة ثقافياً، والتي من شأنها ممارسة تقعيد العروض الكردي، إن جاز التعبير، كما فعل الفراهيدي عربياً. إن الشتات في القول الشعري، أو ما يدخل في عداد الشعر، وهو مغنَّى، من طول وقصر، ومن اختلاف في القافية، ونفي للوزن أو حضور ما له، لتكون للموسيقى حركة مختلفة..، إن كل ذلك يواجهنا بالبعد الخرائبي، لجغرافيا ثقافية مستقرة، ومن خلال نوع من التآلف الموجود، يمارس ضبطاً أكثر لما هوفونيتيكي كردياً، ويضفي على الشعر الكردي والذي ما زال الفولكلور يحتفظ بالكثير من أوابده و" قلائده"، قيمة امتياز تاريخية، تلهم الآخرين، والكرد بداية، وهم في تبعثرهم النفسي والوجداني، عدا التضاريسي، والتاريخي، حيث النهايات الكبرى، والمترافقة مع طول بيت ما، كما في ( أغاني الحرب ، مثلاً)، كما هي النهايات القصيرة، تتجاوب مع كمية الهواء الداخلة إلى الرئتين، وتعبّر عن الحالة النفسية، والمكان، وكذلك الوضعية الاجتماعية للمعنيين بالموضوع.
ولكن، وقبل كل شيء، تكون الشفاهة، عبر السماعي، من خلال مطمطمة الصوت، ورغم أنف اللغة وقواعدها في السكون والحركة، سلطة طاغوتية، تؤكد أصالتها البارعة والمخيفة، في احتواء الغالبية من الكرد، ومن الداخل، حتى وإن بدوا حداثيين بيوتاً وتخوتاً وسموتاً ( أحيل القارىء هنا، إلى أمثلة فولكلورية، جمعها جكرخوين، في كتابه : الفولكلور الكردي، ستوكهولم، طبعة 1988، وكذلك إلى أغاني عبدلو، سعيد ملا خليل، عبدالعزيز سمي، هجار علاني، سليم كورو، رفعت داري..، وأظنها متوفرة عند أصحاب محلات بيع الأشرطة...).
هنا أثبت: ما أشبه الشاعر الكردي، وهو في أوج حداثته المعتبرة، بذلك المغني المضافاتي، حيث المضافة حلت في الداخل، وهو يتصور: يتخيل الآخرين متحلقين حوله، أو يسمعون صوته، مع فارق أن المغني كان يجوّد صوتياً، بينما الشاعر، فهو يجوّد بالصوت دون التنغيم المطلوب).
لنأخذ هذه القصيدة، لسيدا جكرخوين، من الديوان الثامن ( ِaşitî)، والمنشور بعد وفاته، سنة 1985، وهي قصيدة ( Kurdo namûs e rabe)، كما كانت المرحلة تقتضي بلغتها، وطبيعة النظم اللغوي فيها، والمسئولية التي يستشعرها صاحبها:
Li me nekin itabê . r:49
في هذين المقطعين، ثمة إمالة لحرف الألف، في الكلمة الثانية، في البيت الأول ليستقيم الوزن، بينما ثمة كسر جلي في البيت الثالث، ووحده الصوت قادر على ملء الفراغ، ويمكن السير قرائياً مع مجمل المتبقي من المقبوس. إن الموسيقي تتبع نظام الصوت المسموع حسياً، والمودع داخل المنشور أو المطبوع على الورق، كما يظهر. والمدرك لطبيعة البحر، يعرف إنه إزاء مجزوء الرجز، مع تصرف اعتباطي بوزنه، والإيقاع بدوره متحكَّم به شفاهياً، وجكرخوين واقعاً، ليس الاستثناء هنا، لا بل ربما كان الأفضل بين الكثيرين، من متعلمي العربية، ممن اعتمدوا العروض العربي في الغالب، من خلال تأثرهم بالثقافة العربية هنا، والمستندين إلى الأذن الذائقة سماعياً.
منازلٌ منازلٌ:
نعم، نحن بصدد منازل القول الشعري، وتوجهات القول هذا، ومراتب: منازل الموسوم بالشعر، بغض النض عن الوزن، أي أنني أهتم بالوزن، طالما ينطلق صاحبه منه، لأمعن النظر: السمع بالتحديد، في الملفوظ، بحثاً عن حركية الموسيقى داخلاً، مثلما أهتم بالشعر، متجاهلاًرهان الوزن، طالما الرهان يعتمد على البنية الإيقاعية الخاصة، على تفجرات المعنى، وزخم المتخيل.
ثمة أمثلة مكاشفة لبعض مما يخص موسيقى الشعر.
المثال الأول يخص مقطعاً من قصيدة بودلير ( هارمونيا المساء Harmonie du soir):
Voici venir les temps oú vibrant sur tige
Chaque fleur s,évapore ainsi qu,un encensoir
Les sons et les parfums dans l,air du soir
Valse mélancolique et langoureux vertige
( المصدرles fleur du mal: أزهار الشر، طبعة pocket، باريس 1989، ص 71).
والترجمة المقترحة:
هاهو الوقت أقبل إذ تتهزهز
كل زهرة على ساقها وكما المبخرة تفوح
حيث الألحان والعظورطي نسيم المساء
مثل دورة الراقصة المغمومة والنشوة الواهنة
والمثال الثاني، مأخوذ من كتاب أرشيبلد مكليش السالف الذكر ( ص28- 29)، ويخص جويس:
Wind whines and whines the shingle
The crazy pierstakes groan
A sentile sea numbers each single
Slimesilvered stone
والترجمة الواردة في الكتاب هي:
الريح تنتحب وتنتحب الألواح،
وأعمدة الرصيف المجنونة تئن،
والبحر الهرم يعدُّ كل حجر
غرويّ فضي ..
ما أردت من خلال المثالين السالفين، وعبر محورة الموسيقى، هو التالي:
إن مجموعة الأبيات الواردة( بالفرنسية في الحالة الأولى، والانكليزية في الثانية)، تعتمد إيقاعاً ركيزته الوزن المعتمد في اللغتين، مثلما أن القافية تأتي في النهاية، وهي ثنائية في المثالين.
إن المتمعن في المثالي، ومن وجهة نظر شعرية، لا بد أن يتلمس روح الشعر، من خلال كثافة المنظور الإبداعي، والحراك الدلالي الضمني، فيكون الوزن لاحقاً على مزايا لغة الشعر.
إن المقروء، عبر الترجمة، لا أظنه يقلل من الحضور الموسيقي الباذخ في المثالين، حتى لو أن الوزن غائب، بفعل الترجمة، ويعني هذا، أن روح الشعر، عندما تتخلل لغة ما، تكون الموسيقى حاضرة، ولا يمكن لا للقافية، ولا للوزن، أن يؤكدا همزة الوصل الشعرية هنا.
ولعلي، باقتباسي هذين المثالي، أريد التنويه إلى الموسيقى التي تتلطف باصطحابها روح الشعر، دون اعتبار الوزن أو القافية، جواز تأكيد أو عدم تأكيد لما هو شعري هنا.
القارىء، وكما أرى، يستشعر استئناساً روحياً باللغة، وهي مترجمة، من خلال الجو المضمخ بالمتخيَّل الشعري، بانفتاح الكلمة على أفق رحب، من ناحية تتالي الدلالات وأطياف المعاني.
وثمة مثال ثالث، يتعلق بسليم بركات الشاعر والروائي الكردي، وهو يكتب بالعربية، إنه مثال مركَّب، أعني أن ثمة ما يقرَأ له موزوناً، باعتماد بحر أو أكثر، أو حالة المزج بين الموزون والمنثور، ودون القافية أحياناً، وما هو طليق، دون وزن.ومن يقرأ الأعمال الكاملة( الديوان)، يلاحظ هذا المنحى، حيث الارتكاز يظهر أكثر من خلال ( المتدارك)، وفي بعض الحالات يظهر كل من ( الكامل) و( الرمل).
في ( دينوكا..) مثلاً، حيث يتقاسم ( المتقارب) بقية القصيدة، في بناء المعلم الشعري لها.ويبدو ديوان ( الكراكي) في أهبة اللاوزن، دون إخفاء الموسيقى المنبثة من حيوية الكلمات المتدافعة:
تيتل على الهضبة
وسكون يرفع قرنيه عالياً كالتيتل... ص159.
ولنمعن النظر في هذين المثالين:
ربما ذكَّرني الورد بنفسي،
ربما ذكر بي الورد رمالاًحُزمت كالنفس
قبل أن يطلقها البحر متاريس، ويأتي بسدود... ص 219.
والمبتدَأ به في ( منعطفات ظهيرة من ريش ...):
علّق الليل،
علق الليل كقبعتك،
وناد حوذيك النهار، الواقف، في انكسار، لصق عربتك الفارغة. ص 257.
ثمة دفق من الصور، من التعبير الجسدي، بكامل هوامياته، وحالات مزج بين صور متباعدة، ولكن الموسيقى تشغل المثالين، وإنما – أيضا- الخارج عن طور البحر، أكثر إفصاحاً عن حركية الموسيقى من الداخل، فلماذا انسياب ( الرمَل) في المثال الأول، وهو محدود بموسيقاه، وتجلي صوت الموسيقى في المثال الثاني أكثر؟ ألأن ثمة انطباعاً مسبقاً من أن بركات يشحن كلماته بالموسيقى من الداخل، ويبتعد عن الوزن، ابتعاده عن سلطة متوارثة، تمارس في الشاعر نقييداً؟
أم تراه يمارس تجريباً، وربما من باب المنافحة، على أنه قادر على الاشتغال بالوزن والقافية، وفي الآن عينه، بالشعر الذي يتكاثف معنىً، بعيداً عن أي وزن أو قافية؟
بركات مقروء شعرياً، فيما لم يتقدم به موزوناً أو مقفى في بعض الحالات ( في قصيدة " البراري " ص 68، يكون ( الكامل) بحراً معتمدا)، أكثر مما هو معرَّف به شعراً موزوناً وقافية، وهو في الوقت ذاته، يبرز أكثر طلاقة رؤية، وإبحاراً في الذات الشعرية المتهادية موسيقى، كما لو أن الكلمات ملحقة بالموسيقى، وليس العكس، من داخل مدونات ( الديوان) كثيراً).
ثمة نزوع إلى الموسيقى، إلى مكاشفة مكوناتها، من خلال ضروب التتابع أو التعارضات القائمة، أو تسخير جمهرة من الرموز، لبناء القول الشعري ذي المتجاوز لأكثر من صدى متماوج.
" يتبع"