«قلائد النار الضالة» قصائد تبحث عن فينيق جديد
التاريخ: الأربعاء 13 نيسان 2016
الموضوع:



هيثم حسين

حفلت مختلف أشكال الكتابة، على مر العصور، باستحضار الأساطير التي تنوعت وتغيرت حسب الزمان والمكان. ويعرّف البعض الأسطورة على أنها حكاية يسودها الخيال، وتبرز فيها قوى الطبيعة في شكل آلهة أو كائنات خارقة للعادة يشيع استعمالها في التراث الشعبي لمختلف الأمم. ويعتمد جل الشعراء اليوم على الأسطورة باعتبارها منبعا من منابع الموروث الثقافي ومصدرا من مصادر تحفيز الذاكرة.


خرائط تختصر مشاهد الخراب والدماء
يختار الشاعر الكردي السوري هوشنك أوسي لمجموعته الجديدة عنوانا رئيسا “قلائد النار الضالة”، وآخر فرعيا “في مديح القرابين”، وبقراءة العنوانين، ومحاولة تجسير الفاصل بينهما، تنفتح الدلالة على إيحاء أن قلائد/ قصائد، هي المقدمة على مذبح الضلال/ المدائحي الشعريّ المنشود لتكون متصدرة حالة مديح مفترضة هي أشبه ما تكون برثاء، ذلك أنّ القرابين ترمز إلى تضحيات مفترضة بدورها، ويكون المديح المكال لها نوعا من رثاء شعريّ يحتفي بها وبتضحياتها.
تحوي المجموعة التي نشرتها دار”فضاءات” في عمان 2016، ثلاث عشرة قصيدة، كتبها الشاعر بين عامي 2005 و2008، أثناء تواجده في دمشق، والقصائد هي: “زيتنونامة”، “الجبل كاف والغيمة نون”، “الأيل الناري الشهيد ومدن الثلج الشاهدة”، “مدوّنات الشيطان”، “سيدة الحرائق الباكية”، “الرجيم”، “ألبوم إيروتيكي”، “إمام الطير”، “الساقي”، “متحف الأنثى”، “البحر وبلاغة الدم”، “خطاب البوم”، و”أسيرُ الغزلان”.
ينوع أوسي في مجموعته أسلوبه من قصيدة إلى أخرى، فتراه يلجأ في بعضها إلى أسلوب سردي، كأنه بصدد سرد حكاية ما، ثم في أخرى يلجأ إلى الإيقاع الموسيقي كأنه على أعتاب تقديم أغنية موسيقية مقفاة، ثم ينتقل إلى طريقة أخرى تنوس بين المقاربة الشاعرية والمواربة الواقعية.

التلاعب بالكلمة
يتلاعب أوسي بالكلمة عبر جمل طويلة، تسودها استطرادات إنشائية في بعض الحالات، كما في قصيدته “الجبل كاف والغيمة نون”، يحاول البحث عن تركيبات غرائبية على طريقة سليم بركات، كأن تكون للمعاني أضرحة، وللأيائل محابر، وللمدائن دروب متشابكة تفضي إلى العدم.
تثرى المجموعة بصور ومقاربات تنتقل من ضفة إلى أخرى، ومن موضوع إلى آخر، وربما إذا ما تم التعامل بنوع من الانتقائية معها، يقف القارئ على جوانب من تعريفات شاعرية يسبغها الشاعر على مواضيعه وأبطال قصائده، بحيث تكون القصائد نابضة بضلال شعريّ منشود، وتحمل أعباء أن ترتقي إلى قلائد نارية تبقي نيران الشعر مستعرة في روح شاعرها.
تعريفات شاعرية يسبغها الشاعر على مواضيعه وأبطال قصائده، بحيث تكون القصائد نابضة بضلال شعريّ منشود
في قصيدته التي يعنونها بـ”متحف الأنثى” يتبدى كأنه أمام اختبار تقديم ورقة بصفات المرأة المتماهية مع قضايا وأمور حياتية متنوعة، ينتقل بين الأوصاف المادية والمعنوية، ورغم أنّه يثبت في العنوان كلمة الأنثى، إلا أنّه يختار كلمة المرأة في المقاطع القصيرة، وكأنّه يترك الأنوثة في العنوان ليلتفت إلى طبائع المرأة بتنوعاتها وتخبطاتها كافة.
تراه يصور “المرأة الضروس”، يقول فيها “إغواء الموت للموت، صوتها/ مشاجرات الدم والدم، ظلها/ عصيان الغبار على أهوائه وأهواء النار الشائخة في رحم آذارها، هو سبيلها لحتفها”.
ينتقل بعدها لتوصيف “المرأة النكبة” التي تكون صورتها عنده على شكل خرائط تختصر مشاهد الخراب والدماء “نادتها الخرائب خيالا، تستوضح مآلها به، فأبت إلا أن تكون خرائطه/ صاحت بها عذريتها: أن استفيقي من ظنونك الحائرة باشتهائك المقتول بك فيك..!/ فانزوت، تستدرج الكارثة إثر أخرى لكمائنها المنصوبة لها”.
تتالى صور المرأة وأوصافها وطباعها وتجسّداتها وتطبيقاتها الحياتية، فهي المرأة السماء، المرأة الزور، وهي المرأة الجحيم، والتي تعكس جانبا من شهوة النار ولعنة العشق، يقول “تداعب الماء بسرد أقاصيص الهواء عليه، مغتابة فحولة الطين/ اغتالت بشبقها المكتوم خصيب التراب، إرضاء لشهوة النار/ اغتالت أنوثتها بكلام أنوثتها، فأحرقت واحترقت”.
كما أنّ هناك المرأة الصلاة، والمرأة الحرب التي يقول إنها تحاول أن تكون امرأة، لكنها تدمر الآخر، كل مرة تحاول فيها أن تكون امرأة. وكذلك يصور المرأة الصقيع التي تكون مسكونة بنقيضها، يصفها باختصار وتكثيف “كالنار، تحرق، ولا تحترق/ كالماء، تروي، ولا ترتوي/ كالريح، تهبّ، ولا تهَبُ”.
بالإضافة إلى توصيفات أخرى للمرأة من قبيل المرأة العاصفة، المرأة السكين، المرأة الخمر، المرأة المجزرة، المرأة الندم، المرأة الحريق، المرأة الكذبة، المرأة الغيب، المرأة الدم، المرأة السراب، المرأة السم، المرأة السجن، المرأة الحجر. وكذلك المرأة الهزيمة التي تراها “تحدّث الحجل عن روحها الماطرة، وهي البيداء القفر تتباهى بحطامها أمام دمها الذي خاصمها، مذ أسرجت أنوثتها للثلج والريح/ تعرض كليل حزنها للبيع على المارة من قصائد/ ما عاد أحد يصغي لرنين وطنين كلامها الذي نخره الصدأ/ ما عاد أحد يصافح ظلها الذي وشى بحبيبها لقياصرة الدم والليل”.

لغة المأساة
في قصيدته “البحر وبلاغة الدم” التي يهديها إلى سمير قصير يتجسد أكثر ما يكون عنوان مجموعته “في مديح القرابين”، ينقل أجواء عاصفة بلغة تحاكي المأساة وتحاول التقاط نذر الخراب التالي، وكيف أن الحبر في مواجهة الدم يسيل في المجرى نفسه، ينصب في بحر واقع مفجع، تسوده المآسي والكوارث، يكون فعل الاغتيال مصاحبا لاستحقاق البطولة في الوقت نفسه للشهيد.
ينقل في القصيدة نفسها تلاحم الشهداء هنا وهناك، فشهداء كردستان يتبادلون التحيات مع قصير في غيب مضرج بالكبرياء، ينشد في خاتمة القصيدة مماهيا بين الجانب الفكري والديني في شخصية الممدوح الغائب المستحضر “شهداء كردستان قالوا: يا كردي الحزن، مقدسيّ الرؤى، بيروتيّ الصوت، مسيحيّ الفداء، إسلاميّ العزم، يهوديّ الخشوع، بوذيّ الحكمة، زردشتي القلب. شامي النسائم والنفحات، أهلا بكبرياء روحك بيننا”.
يكون السؤال الذي يختم به أوسي مجموعته نافذة يطلّ من خلالها على الزمان والمكان معا، على الأمس والغد في الوقت عينه، وذلك في قصيدته “أسير الغزلان”، حين ينشد “مَن يفكّ أسري من جبالك والبحر، من سمائك والليل، يمكنه إهداء هذا النص لميتتي العاشرة؟”.
وهنا ميتات الشاعر التي وصلت إلى الميتة العاشرة ترمز في جانب ما إلى روح الفينيق التي تسكن الشعر وتسمه بطابعها التجددي الإحيائي.
يشار إلى أن هوشنك أوسي يقيم في بلجيكا منذ سنوات، وهو من مواليد الدرباسية/ سوريا 1976، له عدة مجموعات شعرية بالعربية والكردية منها “للعشق نبيَّه.. للجرح شراعه”، “ارتجالات الأزرق”، و”شجرة الخيالات الظامئة – شعر باللغة الكردية”، و”الكلام الشَّهيد”.
المصدر صحيفة العرب اللندنيّة






أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=5702