القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

حوارات: حوار مطول مع الكاتب السوري الكردي حليم يوسف

 
السبت 20 اب 2022


أجرى الحوار: نصر محمد / المانيا

يكتب القصة والرواية ويجد لذة خاصة في كتابة هذين الجنسين السرديين. رغم خصوصية كل منهما، فان لكل منهما غوايته الخاصة بالنسبة إليه. 
القصة لديه هي تلك اللحظة التي تلتقطها عيناه فتستهويه، وهي تلك الكلمة التي تسمعها أذنيه. يتردد صداها في قلبه فتأخذه، وينكب على كتابتها. أما الرواية فهي ذلك الفضاء الواسع الذي يسمح له بالتجول فيه، كيفما يحلو له ويطيب. وقد شبه انتقاله من كتابة القصة إلى الرواية في أحد حواراته، كمن يسكن في غرفة صغيرة ومع الزمن تضيق به مساحة تلك الغرفة فيبحث عن مساحة أكبر يسكن فيها، ليتاح له المزيد من التحرك بحرية، وهكذا قرر السكن في مبنى الرواية دون أن يتخلى نهائيا عن غرفته الأولى، حبه الأول المتجسد في كتابة القصة القصيرة. 


ولذلك تنوعت إصداراته الأدبية بين القصة والرواية منذ قصص الرجل الحامل، نساء الطوابق العليا، موتى لا ينامون، مم بلا زين، آوسلاندر بيك والرجل الذي يبحث عن ذيله، مرورا بروايات سوبارتو ، خوف بلا أسنان، حين تعطش الأسماك، تسع وتسعون خرزة مبعثرة، الوحش الذي في داخلي، الطيران بأجنحة متكسرة، وانتهاء بمسرحيات مأخوذة من قصصه أو كتبها بنفسه وجمعها مؤخرا في كتاب مؤلف من ستة نصوص مسرحية يحمل عنوان "جمهورية المجانين"

حليم من مواليد عاموده 1967 لأب كردي فار من قرى جبال أومريان الواقعة "فوق الخط"-بتركيا، ومن أم كردية من "تحت الخط" بسورية. ومع ذلك لم يكن الأب يعرف التركية ولا الأم تعرف العربية. وظلت الكردية لغة التواصل الوحيدة ضمن العائلة، رغم مشاريع التعريب في المناطق الكردية السورية.

حليم يوسف يكتب بالكردية والعربية. خريج كلية الحقوق في جامعة حلب، ويقيم في ألمانيا منذ العام 2000. صدرت أعماله حتى الآن باللغات الكردية والعربية والتركية والفارسية والألمانية والانكليزية والايطالية... !!

* الكاتب حليم يوسف بداية حدثنا عن  تورطك الأول في الكتابة، متى وكيف كان عناقك للأدب قراءة وإبداعا ؟ ومن هم الكتاب الذي تأثرت بهم وكانوا مصدر الهام لك؟

#بدأ تورطي في هذا المجال مبكرا،  وقبل أن أعي معنى هذا التورط وتداعياته، مشيت تجاه الكتابة كطفل سائر في النوم وهو منقاد من الجن إلى متاهة ما. بدأ الأمر مع اكتشاف متعة السفر في عوالم الحكايات والقصص الشيقة، الشفوية منها والكتابية. لم تجذبني الكتب الفكرية والأبحاث الجافة، فقد وجدت ضالتي في الأدب، حيث شعرت مبكرا أن اكتساب المعرفة لا تحتاج إلى الكثير من الإمكانيات الهائلة وإلى الكثير من المال لتتمكن من قطع المسافات الهائلة للبحث عنها، وإنما يكفي أن تحمل كتابا وتقرأ فيه. أكبر اكتشاف في طفولتي كان اكتشاف مكامن المعرفة المختبئة في بطون الكتب. لذلك كنت قارئا نهما للكتب ولا أزال. إذا ما أضيفت إلى هذه المسألة تفاصيل الحياة اليومية لطفل ولد في مكان خرافي مثل عاموده، المحاطة بالأسلاك الشائكة والألغام من الشمال، بالفكاهة والإبداع في الشتائم من الغرب، بتل شرمولا وغبار الحزن من الجنوب، و بأكياس القمح وطوابير الحمالين وبقوس النصر من الشرق، كل ذلك يخلق الكثير من الأسئلة والمزيد من الألم. ولا أدري كيف أحسست أن الكتابة تخفف من الألم الذي يخلفه العجز عن إيجاد أجوبة مقنعة لكل تلك الأسئلة. بدأت الكتابة لدي كحاجة شخصية، ومن ثم تنوعت الدوافع والأسباب. كتاب كثر تأثرت بهم، قلدتهم في بداياتي، وتحررت من تأثيراتهم شيئا فشيئا وأنا أبحث عن صوتي الخاص في الكتابة. التأثيرات تمتد من معظم الأسماء المعروفة في الأدب العالمي ابتداء من كافكا وبولغاكوف وماركيز، مرورا بنجيب محفوظ وحنا مينا وانتهاء بكتاب وشعراء عاموده. إذا تحدثت عن البدايات لا بد من ذكر فضل بعض الكتاب الذين كنت على علاقة مباشرة معهم، وأخص بالذكر أستاذي في مادة اللغة العربية في ثانوية المعري في عاموده الشاعر جميل داري الذي أتعبته كثيرا بقصصي الأولى، وهو يراجعها طوال الوقت ويقوم بالتصحيح اللغوي ويزودني بملاحظاته القيمة التي كان يكتبها لي بالقلم الأحمر في نهاية قصصي التي أعرضها عليه، وما أكثرها. وفي هذا السياق لا بد من ذكر تجربة "ملتقيات جامعة حلب الأدبية" الملفتة، التي حظيت بالمشاركة فيها لسنوات عديدة. وقد أنتجت تلك التجربة أسماء هامة للأدب السوري الحديث.

 * لكل كاتب أسلوبه الخاص فيه، هل لحليم يوسف أسلوب معين يتبعه في كتاباته ؟ وما اللغة التي يفضلها . لغة السرد البسيطة أم اللغة الشعرية المكثفة ؟ ولماذا ؟
 
#بالنسبة لي كل كتاب جديد،  كل نص جديد أبدأ بكتابته يشكل لي امتحانا آخر، فرصة أخرى للتجديد ولتجاوز المنجز. لذلك فان الوقت الذي يستغرقه البدء بالكتابة غالبا ما يطول كثيرا. لا أعاني من قلة المواضيع أو الأفكار أو المواد الخام للكتابة، فهي كثيرة ومتاحة على الدوام، لكن ما تستوقفني هي كيفية تحويل هذه المواد الخام إلى عمل فني متقن البناء. حيث أن الكيفية تلك هي التي تحدد الملامح العامة للأسلوب. أما اللغة التي أنحاز إليها في الكتابة فهي اللغة النثرية البسيطة التي أجدها مناسبة للأجناس النثرية كالرواية والقصة، وهذا لا يمنع من اللجوء إلى اللغة الشعرية أحيانا فيما إذا اقتضت الضرورة الفنية ذلك. لأن اللغة النثرية تحدد ولا تومئ، تساهم في تجسيد الحدث ونقله برشاقة ودون تقعر. أما اللغة الشعرية فغالبا ما تميع الحدث في النص النثري وتغرقه في الضبابية والملل.

 
* الكاتب حليم يوسف، ماهي الرسائل التي تود إيصالها للقارئ من خلال أعمالك الروائية والقصصية ؟

#لو كنت أعلم ما هي الرسائل التي أود إيصالها للقارىء لأوصلتها له في جمل قليلة ولاستغنيت عن كل هذا التعب الذي يسببه لي كتابة القصص والروايات. أعتقد أن الكتابة الأدبية مسألة معقدة وأن الرسائل التي تحملها للقارىء شديدة التداخل ولا يمكن حصرها في كلمات محددة. لذلك يصعب علي الإجابة على هذا السؤال.

 * من سهول عامودا وتلة شرمولا إلى عمق القارة الأوربية . هل تتغير الآليات السردية؟ هل لكل مكان لغته الأدبية؟ وكيف يتنفس حليم يوسف الغربة أدباً؟ 

#الكاتب يحمل همه الإبداعي أينما حط به الرحال، وغالبا ما يتمحور هذا الهم حول الذات، لأن الكتابة هي استجابة لنداء داخلي يستند إلى عمق روحي. ولا علاقة مباشرة بين ذلك النداء وبين المكان الذي يتواجد فيه الكاتب. إلا أن هذا لا يعني أن للمكان دورا ما في صياغة الوعي من باب اكتساب التجربة. أن تنتقل إلى مكان جديد، وفي حالتنا من قارة إلى أخرى، من عالم إلى آخر، من ثقافة إلى أخرى، لا بد من أن يترك هذا المكان المختلف بصماته الواضحة لا على المواضيع التي يتم تناولها فحسب، بل على آليات السرد المتبعة لدى الكاتب المهاجر. ويمكننا هنا التحدث عن نوعين من الكتاب، أولهما ينغلق على عوالمه الداخلية وينغمس في استحضار الذاكرة، فيظل مشدودا إلى ماضيه على صعيدي الزمان والمكان. وثانيهما، وهذا ما أجدني قريبا منه، ينفتح قلبه وعقله على العوالم الجديدة، فيبدأ بالمزج بين الماضي والحاضر ليخرج بنصوص أدبية مخلصة للجذور من ناحية ومتفاعلة مع التجربة الحياتية الجديدة التي يخوضها، وذلك باتكاء جزئي وليس كلي على الذاكرة. بالنسبة لي أحاول دائما أن تفتح تجربة الغربة التي أعيشها آفاق جديدة أمام كتابتي على جميع الصعد، الأسلوبية منها والمعرفية. هذه العلاقة "المنفعية" في إحدى وجوهها مع الأمكنة قد تفسد حياة الكاتب الذي لا يعيش التجربة بتفاصيلها الممتعة بقدر ما يفكر في كيفية استثمار تلك التجربة إبداعيا. 

*  صدر للكاتب حليم يوسف رواية ( سوبارتو ) عام 1999. والأكثر جدلاً بين أعماله . كونها حطمت كل التابوهات السياسية والاجتماعية . لو تحدثنا بإيجاز عن هذه الرواية ؟ وماذا تحوي بين دفتيها ؟ ولماذا اتهمت هذه الرواية بتشويه مدينة عامودا من قبل البعض ؟ 

#سأتحدث في البداية عن النقطة الأكثر إشكالية بخصوص سوبارتو وهي المسألة الشخصية.  كتبت هذه الرواية إثر خروجي من تجربة حب عاصفة في بلدتي الصغيرة عاموده. وقد اتخذت من تلك التجربة الشخصية خلفية فنية لأحداث الرواية من خلال الاستفادة من حكاية سليمان وبلقيس التراثية، ومزج كل ذلك بالتشوهات العميقة التي أصابت الجسد الاجتماعي والسياسي لمكاننا المنكوب والمبتلي بأمية ثقافية فاقعة. في بلدة صغيرة مثل عاموده، حيث الجميع يعرف الجميع، ما إن لمح بعض من قرأ الرواية ملامح قصة الحب التي تحدثت عنها، حتى تعامل مع الرواية وكأنها سيرة شخصية لكاتبها الشاب الخارج للتو من تلك التجربة الفاشلة. وتم إلغاء البعد التخييلي والأدبي في الرواية وحاول هؤلاء تفريغها من مضمونها وتقديمها على أنها مجرد فضائح عن أشخاص يعرفونهم بالاسم. وهذا أمر بعيد عن الحقيقة. وذهب هؤلاء، منهم عن سوء نية مبيتة ومنهم عن جهل بطبيعة النص الأدبي وعلاقته بما هو واقعي، بأن كل التفاصيل المكتوبة في الرواية هي تفاصيل واقعية حدثت فعلا وبأن كل ما فعلته هو تغيير اسمي باسم آخر هو سليمان في الرواية. في حين أؤكد وللمرة الألف بأن قصة الحب الشخصية التي عشتها شيء، وقصة الحب الموجودة في الرواية شيء آخر، مختلف تماما. وأن التقاطعات الموجودة بين القصتين تنحصر في الملامح العامة لهما. وأؤكد بأن سيرة سليمان في الرواية ليست سيرتي الشخصية، كما أن شخصية بلقيس وخصوصياتها في الرواية تختلف كثيرا عن شخصية الفتاة الواقعية التي أحببتها في مطلع شبابي. أقول ذلك ليس تهربا أو تغطية على "فضائح شخصية" كما يحلو لبعض الصغار تسميتها، بل تأكيدا لحقيقة لا بد من أن تقال. لذلك فان رواية سوبارتو قرئت في ديار بكر ووان وباتمان بالكرمانجية و في السليمانية بالسورانية بمنظور آخر بعيد تماما عن هذه الإسقاطات الشخصية. أما بالنسبة إلى موضوع التشويه، فان الهجوم علي جاء من طرفين، الأول هم من المسئولين عن هذا التشويه وقد أوجعتهم الرواية بتسليط الضوء عليهم وعلى دورهم التخريبي. الطرف الثاني هم أناس طالهم التشوه في كل جسدهم، وصدور الرواية كان بمثابة المرآة التي تحملها وترفعها أمام شخص مشوه الوجه. عندما يرى هذا الشخص المهزوم حقيقة تشوهاته القبيحة في المرآة يجن جنونه وسيحاول تحطيم المرآة على رأس من يرفعها أمام وجهه. كما أن تسليط الضوء على التشوه وتشخيصه في الأدب هو خطوة باتجاه معالجته والتخلص منه، إذ لا يمكن معالجة التشوه دون تشخيص. وهذا ما فعلته رواية سوبارتو. كتابتي عن عاموده صادر عن حبي لها وتناولي للتشوهات المنتشرة في جسدها هي محاولة مني لمساعدتها للتخلص منها، لأنها توجعني قبل أن توجع مدينتي الجريحة. هي محاولة مني أن أرى مدينتي جميلة، نقية العينين، خالية من التشوهات والجهل ومن قتلة الحب.

* من أين يأتي الكاتب حليم يوسف بهذه الإنسيابية في الحكي التي تصطاد القارئ بمجرد التورط في جملته السردية الأولى؟ 

#أعتقد أن السر الذي يقف وراء هذه الإنسيابية التي تتحدث عنها هو الصدق. منذ اللحظات الأولى التي حملت فيها القلم من أجل الكتابة الأدبية وأنا أستجيب لنداء أعماقي فقط، لصوت روحي وعقلي وضميري بعيدا عن السعي إلى المنفعة الفردية أو إرضاء الآخرين. وما يخرج بإنسيابية من قلب الكاتب لا بد أن يجد طريقه بإنسيابية مماثلة إلى قلوب القراء. هذا من الناحية الحسية، الشعورية، أما من الناحية التقنية فأنا أبتعد قدر الإمكان عن التقعر في اللغة والغرق في المتاهات البلاغية لصالح البساطة في السرد والإنحياز الى اللغة النثرية التي تتناول الأحداث برشاقة وبوضوح. أضيف الى كل ذلك التوازي الدائم، في كل أعمالي، بين الواقعي والتخييلي والتداخل التقني بين الخطين لبناء نسيج فني محكم للنص الأدبي.

 *  هل يوافق الكاتب حليم يوسف الرأي القائل : ان الحدث السوري المشتعل اكثر من 10 سنوات كان رافدا مهما للأدب وبالتالي للرواية السورية ؟

#الحدث السوري كان مزلزلا، عاصفا، مدمرا، وقبل كل شيء كاشفا. إذ تم رفع الغطاء عن حقيقة ما كان يسمى من الناحية النظرية الشعب السوري، حيث أدت الارتدادات الناتجة عن هذا الحدث المزلزل إلى انكفاء هذا الشعب غير المتجانس على نفسه وتحوله إلى مجموعات طائفية وإثنية لا رابط بينها. هناك طائفة ترى أن طهران أقرب اليها من دمشق، وطائفة أخرى ترى أنقرة أقرب اليها من دمشق. هذه سعت إلى الاستنجاد بالقوات الإيرانية لحمايتها، وتلك لجأت إلى القوات التركية لحمايتها. وبين هذه وتلك وجد الكرد أنفسهم مكشوفي الظهر مستنجدين بقوات كردية ما وراء الحدود السورية لقطع الطريق على إبادتهم من قبل إحدى الطائفتين. واكتشفنا أن هناك تركمانا في سوريا يفضلون الهوية التركية على الهوية السورية وهم على استعداد تام للتضحية بكل شيء ليعيشوا كل حياتهم كحراس للأمن القومي التركي حتى وإن أدى ذلك إلى قتل آلاف السوريين بالأسلحة التركية. من الطبيعي أن يتحول هذا الحدث التاريخي بامتداداته التراجيدية إلى رافد مهم للرواية السورية، على اعتبارها الجنس الأدبي الأكثر شيوعا في الوقت الراهن. وأتوقع أن يستمر هذا الحدث وما أحدثه من شرخ عميق في الحياة السورية في مختلف المجالات كرافد هام للأدب السوري عامة وللرواية السورية بشكل خاص. خاصة أن الحدث لا يزال مستمرا ولا أحد يعلم إلى أين يتجه وأية خاتمة ينتظره.

 * على الغلاف الأخير لمجموعتك القصصية ( نساء الطوابق العليا ) مكتوب: "كلما سكن الرجل في طابق  سكنت المرأة في طابق أعلى منه، وعندما سكن الرجل في الطابق الأخير ، سكنت المرأة في الغيوم" من خلال هذه الكتابة لو تدخلنا إلى عوالم هذه المجموعة ؟

#نساء الطوابق العليا" هي مجموعتي القصصية الثانية بعد "الرجل الحامل" وأردتها أن تكون مختلفة تماما عن القصص الواقعية الساخرة التي تضمنها كتابي الأول. اعتمدت في كتابة هذه القصص على القضايا الفلسفية والمعرفية والتاريخية أكثر من الحالات الواقعية والأحداث اليومية التي تناولتها في كتابي الأول. ومن تلك القضايا فلسفة الحب وعلاقة الرجل بالمرأة من خلال التقائهما المستحيل في طابق واحد أو في منطقة هادئة بعيدة عن التوتر والقلق. وهنا أتحدث عن الالتقاء الروحي حتى وان تم الالتقاء الجسدي بينهما من خلال الحياة الزوجية، وخاصة في مجتمعاتنا التي تعاني الكبت الجنسي وانعدام الحريات والمسكونة بخوف ثقيل ينخر عظامها ويمتد بشكليه الأفقي والشاقولي، مخلفا وراءه شخوصا تعاني من الهزيمة ومن أمراض نفسية مزمنة. في هذا الكتاب أردت تناول الحالة الراهنة لمجتمعاتنا المنكوبة بوسائل ترتكز على نواح فلسفية وتاريخية ومعرفية وروحية وتخييلية، وذلك من خلال إضاءة نفوس الشخوص من الداخل. وهي المجموعة الوحيدة التي تمتلك هذه الخصوصية من بين المجموعات القصصية الستة التي صدرت لي حتى الآن.

*  الكاتب حليم يوسف هل حظيت أعمالك من قصص وروايات بإهتمام النقاد ؟ كيف ترى حركة النقد ؟ هل لدينا حركة نقدية جادة ؟ 

#صدرت حتى الآن خمسة كتب نقدية باللغتين العربية والكردية عن أعمالي. الأول هو "عالم عبدالحليم يوسف التعبيري" للناقد السوري الراحل محمد محي الدين مينو الذي تناول فيه "نساء الطوابق العليا" و"الرجل الحامل" وصدر في العام 2004. الكتاب الثاني هو" سوبارتو، السيرة الذاتية لمكان منهوب" للناقد مسعود حسن الذي صدر في العام 2006. الكتاب الثالث هو "صورة الظهر، عبء الاستعباد في أدب حليم يوسف" للناقد فرزا ن شير الذي صدر في استانبول بالكردية في العام 2021. الكتاب الرابع هو " فك المرموز في روايات حليم يوسف" للكاتب ريبر هبون في العام2021. الكتاب الخامس هو "البنية السردية في رواية سوبارتو" للناقد الكردي العراقي ريبين أحمد محمود الذي صدر في العام 2022. كما أن دار نشر بيوند تعمل على جمع جميع المقالات النقدية التي كتبت عن أعمالي بالكردية وجمعها في مجلد واحد سيصدر كجزء من الأعمال الكاملة التي تواظب الدار على نشرها هذا العام. إذا ما تذكرنا المشهد النقدي العام لدينا وقارنناه بما حظيت به أعمالي من اهتمام ولا يزال، فإنني أجد نفسي محظوظا في هذا المنحى. وفي رأيي أن التجربة الأدبية الجادة ستحوز على اهتمام النقاد الجادين طال الزمن أم قصر. هذا ما تقوله تجربتي الخاصة مع الحركة النقدية.

 *  هل يمتلك الكاتب حليم يوسف موهبة التحايل على الرقيب الرسمي ؟ وماذا عن الرقيب الذاتي أثناء الكتابة ؟ 

#كتابي الأول"الرجل الحامل" هو الكتاب الأول والأخير الذي حصلت على موافقة الرقابة لطباعته ونشره في سوريا، وذلك بعد حذف قصة وحيدة رفضتها الرقابة في دمشق في العام 1991. وتم منع كل كتبي الأخرى والتي صدرت إما داخل سوريا سرا أو خارجها. لذلك فإنني تحررت منذ البداية من سلطة الرقيب الرسمي لأنني توصلت إلى قناعة بأن المنع أو الامتناع عن إعطاء الموافقة على الطباعة والنشر يطال اسمي وشخصي بغض النظر عما أكتبه. فرفضت الرقابة في دمشق مخطوط "نساء الطوابق العليا" ومخطوط"سوبارتو" وقد تم مصادرة خمسمائة نسخة من سوبارتو من قبل دورية للأمن السياسي على الحدود السورية اللبنانية بعد أن طبعتها في بيروت ودفعت مبلغا من المال لأحد المهربين لإدخالها إلى سوريا، فصودرت النسخ ولم يعد لي المهرب ما دفعته له لإدخال الرواية عن طريق التهريب الى سوريا. وقد غامرت فيما بعد مع صديقي الفنان التشكيلي نهاد الترك الذي أخبرني بوجود أحد أقاربه من قرية في عفرين كقائد للدورية على الحدود السورية اللبنانية واستطعنا عن طريقه إدخال ثلاثمائة نسخة من سوبارتو الى سوريا. وهي النسخ الوحيدة التي نفدت من الرقابة وتم توزيعها وقتذاك باليد على الأصدقاء والقراء. أما الرقيب الذاتي فإنني أتركه على الباب قبل الكتابة ولا مكان له لا في عقلي ولا في مخيلتي أثناء الكتابة. أنا كاتب حر الى أبعد الحدود، أكتب قناعاتي دون الخضوع لأي رقيب أو حسيب، ولا أعرف حدودا لتدفق الأفكار والمشاعر إلا ما تقتضيه الضرورة الفنية والأدبية.

*  برأي الكاتب حليم يوسف لماذا المشهد الروائي الكردي في سوريا بشكل عام وروج آفا بشكل خاص خجول للغاية ؟ 

#عندما نتحدث عن المشهد الروائي الكردي في روجآفا نجده يتوزع بين لغتين، ولكل لغة منها امتداد جغرافي سواء في بعده الوطني السوري أو في بعده القومي الكردي. بمعنى لا يمكن التحدث عن الروايات التي يكتبها الكتاب الكرد بالعربية بمعزل عن مشهد الرواية السورية العام. وكذلك الأمر بالنسبة للروايات التي يكتبها الكتاب الكرد السوريين بالكردية، حيث لا يمكن التحدث عنها بمعزل عن المشهد الروائي الكردي بشكل عام وخاصة في بعده الكرمانجي. نظرا للتداخل الذي حدث في هذا المشهد نتيجة منع اللغة الكردية في سوريا وصعوبة الطباعة والنشر بالكردية داخل سوريا. فبالنسبة لي على سبيل المثال، فقد بدأت بنشر كتبي الكردية في تركيا منذ العام 1996 وحتى الآن دون انقطاع. فرغم المنع الرسمي للغة الكردية في تركيا، الا أن الطباعة والنشر بها بات متاحا منذ عهد أوزال في بداية التسعينيات. لذلك فان فصل المشهد الكردي الروجآفايي عن أبعاده التي ذكرتها آنفا يؤدي الى تحجيمه ووضعه في حيز ضيق. في حين يختلف الأمر تماما عندما نتحدث في سياق مساهمات الكتاب الكرد الملفتة في الرواية السورية أو دور الكتاب الكرد السوريين في اغناء وتطوير المشهد الروائي الكردي على العموم.

* كيف يقيم الكاتب حليم يوسف المسافة بين الأدب الكردي والأدب العربي . وإلى أي درجة يمكن للترجمة الأدبية أن تمارس دورها كجسر بين ضفتي لغتين جارتين دورها في نقل حقيقة الأدب؟ لك أعمال روائية وقصصية ترجمت إلى عدة لغات . مالمغزى من الترجمة بالنسبة لك، وهل تؤمن بترجمة الأدب ولماذا ؟ 

#لا يمكن مقارنة الأدب الكردي مع أي أدب آخر في العالم من حيث الكم. الكرد حرموا عبر التاريخ من إقامة دولتهم القومية وهذا ما ألحق ضررا بالغا باللغة الكردية خاصة وبالثقافة الكردية عامة، والتي أصبحت عرضة للنهب والسلب والاندثار والسطو والسرقة. وبانعدام المؤسسات الثقافية عامة والداعمة للترجمة خاصة يفقد الأدب الكردي حظوته في مجال الترجمة بشكل تام سواء من أو الى اللغة الكردية. وينحصر الأمر على المحاولات الفردية التي يقوم بها الكتاب الكرد بجهودهم الفردية البحتة هنا وهناك. إن حركة الترجمة من والى لغة معينة مرتبطة إلى حد كبير بمدى سطوة القوة الاقتصادية والسياسية الداعمة لتلك اللغة. إذا راقبنا حركة الترجمة في العالم فإننا نجد إقبالا كبيرا في أوربا على الترجمة من الانكليزية (لغة أمريكا). هناك تسابق محموم على ترجمة نتاجات اللغة الانكليزية الى اللغات الأوربية. في حين نجد إهمالا كبيرا وعدم اهتمام  بنتاجات اللغة العربية (لغة العالم العربي المشرذم والمنقسم على نفسه). في حين تعاني حركة الترجمة من والى اللغة العربية من عقدة ما تسمى "المركزية الأوربية". يحدث في الأجواء الأدبية الأوربية أن يظل كاتب عربي كبير  في الظل مهمشا لصالح صعود اسم كاتب عربي آخر صغير اثر انتهاز فرصة هنا و هناك أو تحقيقه لمتطلبات السوق الأوربية بطريقة ما، خاصة عندما نجد أن الشرط الأول والأخير لتبني دار نشر أوربية كبيرة لكتاب ما هو التسويق والتسويق فقط. في حين تغيب المعايير الأدبية عن هذا الموضوع بشكل كلي. هكذا تتدرج الأمور حتى نصل إلى الأدب الكردي الذي يقبع في أسفل سلم الاهتمام نتيجة الوضع الكردي المزري الذي لا يخفى عليك وعلى الجميع. في ظل هذا المشهد العام الذي يبدو قاتما، يصر بعض الكتاب الكرد على حفر جبال الصعوبات بإبرة المراهنة على السوية الأدبية لنصوصهم الروائية. صدرت كتبي عدا الكردية والعربية باللغات التركية والفارسية والألمانية والانكليزية ومؤخرا الايطالية. ووراء كل هذه الترجمات مبادرات فردية لمترجمات ومترجمين أحبوا هذه الأعمال وتصدوا لترجمتها طوعا. وفي الفترة الأخيرة تلقت مترجمتي الألمانية أتعاب الترجمة عن رواية لي لم تصدر بعد. هذا عدا عن افتقاد الكرد على امتداد العالم إلى الوكالات الأدبية التي تلعب دورا كبيرا في تنشيط حركة الترجمة وكذلك عدم وجود مترجمين محترفين للأدب الكردي يصعب الأمر أكثر فأكثر. وأختم جوابي بقول للبرتغالي ساراماغو بهذا الخصوص عندما قال بما معناه، أن كل الكتاب على امتداد العالم يكتبون أدبا محليا، ومن ينقل هذا الأدب المحلي الى العالمية هم المترجمون. 

 *  من يقرأ رواية (خوف بلا أسنان) الصادرة عن دار نون الإماراتية وصدرت في طبعتها الجديدة عن دار نفرتيتي في مصر، سيكتشف للوهلة الأولى أنه أمام أحداث مروعة، لو تحدثنا بإيجاز عن هذه الرواية ؟

#اذا اختصرت الحديث عن هذه الرواية في كلمة واحدة أو كلمتين، فإنني سأسميها "كتاب الخوف". شغلتني ظاهرة الخوف التي نعاني منها منذ مجيئنا إلى هذه الدنيا برفقة البكاء وانتهاء بالمستطيل المرعب تحت الأرض حيث ينتهي بنا المطاف. وشعرت دائما بأن الخوف متعدد الوجوه ولا ينحصر ذلك بالعيش في ظل الدكتاتورية فقط، وإنما تتعدد مصادره لتمتد الى العائلة والمدرسة والشارع والتاريخ والدين و...هكذا حاولت البحث عن المكان الأصلي للخوف، وعن العنوان الذي يسكنه. وعندما انفجرت ما تسمى بانتفاضة قامشلو في الثاني عشر من آذار العام 2004 فوجئت بالطاقة الايجابية الهائلة الكامنة في تلك الحشود المنتفضة وقدرتها على هدم جدران الخوف دفعة واحدة ودون سابق إنذار. إن الشرارة الحسية التي أشعلتها تلك الانتفاضة في مخيلتي دفعتني الى التفكير في كتابة هذه الرواية، والعودة إلى البحث عن جذور المشكلة التي قد تكون مختبئة في تراب التاريخ مثلا. لذلك تجد موسى، مدرس التاريخ، الشخصية الرئيسية في الرواية، يتتبع آثار سايكس الانكليزي وبيكوت الفرنسي ويتوجه إلى بلادهم للالتقاء بهم وفهم الأسباب الكامنة وراء جرائم اقترفوها على الورق في حين دفعنا و ندفع نحن ثمنها من دمائنا على الأرض. هي رواية عن الخوف، عن هواجس المهزومين، عن انتصار القدرة الخارقة لبشر مكشوفي الظهر وهم يواجهون العالم تشبثا بحق البقاء. هي في المحصلة رواية عن خوف يتآكل بأسنان الحلم الأبدي بالحرية لشعب ربما يخسر مرة أو مرتين أو ثلاث، لكنه لا يموت.

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 3.4
تصويتات: 5


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات