القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

قصة: السقوط ولكن للأعلى

 
الجمعة 01 تشرين الاول 2021

هيفي الملا

كسربٍ من الطيور المهاجرة لايمكن القبض عليها، كقطرات من ماء الحياة تتسرب من بين أصابعها دون أن تستطيع تداركها ، هكذه هي السعادة قصيرة العمر تأتي ثم تلمز لك لسانها وتمضي وكأن شيئاً لم يكن.
لحظاتٌ نقف فيها صفر اليدين ثكالى أمام أنين ذكرياتنا  ثكالى أمام ضحكاتنا، أفكارنا، صدقنا مع ذاتنا، عفة روحنا، نزاهة منطقنا، وجنون الحياة في أوردتنا.
 تمضي اللحظات ونتمنى لو ندركها أو نخزنها في قوارير، فلا يسعفنا الوقت ولا المدى المتشظي لأنها تمضي خاطفة .... 
غريبٌ أن يبقى المرء متحجراً في نفس المكان والتوقيت زمناً لايقدره، ويفقد معقولية حسابه، محنطٌ يتلقى كل الهزائم والشتائم واللطمات صامتاً وربما مبتسماً.
بكل هذا الضياع حولها والتمزق في روحها جلست على صخرةٍ باردةٍ في أخر يومٍ من تقويم الحيرة في مكان لاتعرفه، تحدثُ نفسها التي تاهت عنها، و المعاول تتهافت عليها بين معاول الخيبة والحزن و الخوف والجهل والبساطة، وكأنها ريفيةٌ طيبة جداً بوشاحٍ من حبٍ وتردد، رُميت غفلةً في أحشاء مدينة صاخبة متلونة .
كانتْ بحاجة لسيارةٍ تحملها من هذا الفراغ اللامنتهي 
بل بحاجةٍ ليد كاهنٍ أو شيخٍ يمسحُ بالتعاويذ على رأسها لتستيقظ المومياء الراكدة داخلها، كانت بحاجة لظلٍ على نافذة عمرها ، فالشمس القائظة أعمت بصرها وبصيرتها.


مشتْ دون هدى تقطعُ الساعات سائرةً دون هدف ووجهة، فهي تجهل جغرافية هذا المكان وتخاف تضاريسه الوعرة شيءٌ ما يؤلمها في هذه اللحظة هل هو روحها أم نزيف ذاكرتها، أم تحالف الوجع في كل أرجاء جسدها المتعب .
خطرت لها فكرة مجنونة أنَّ تلمسَ بؤرة آلمها، أن تصل
إلى تلك النقطة العميقة من الوجع وتتلذذ بها فقد يطهر ذلك روحها و فوضى أفكارها وأوجاعها، ليستْ مازوخية أبداً، وتكره عقدة الضحية، ولا ترضى فلسفة روحها ومنطقها أن تكون السجينة ورقمها معلق على صدرها في أقبية الحياة ولكنها تريد أن تفعل شيئاً ما، دون أن تهزمها دموع الأنثى، دون أن يكبل الضعف والفرط يديها وقدميها .
سارت كثيراً وهي تتمتمُ يا إلهي ما أكثر الحديد في هذه البلاد وما أقل الأرواح!!
تمضي دون إشارات فكل الدروب متشابهة بل دائرية فالدرب يقود لنفسه، وعند آخر خطوة متهالكة أخبرت سائقاً عن عنوان منزلها ركبت وهسيس ثوبها الأسود يعانق وجع الفراغ في السيارة لتنتحب دون دموع، لتتكلم كثيراً دون لغة لتنام طول الدرب بعيون مفتوحة .
تصل للبيت وخرائط التيه في روحها وتجاعيد ألف زمن على جبينها ، عظيمٌ أن يكون لها ركنٌ تنزوي فيه، تبكي فيه، ترمم أنقاض نفسها وتلملم شتات روحها فيه، قبل أن تخرج لحفلة الحياة التنكرية.
تمددتْ على سريرها بصمتٍ، كان الجميع حولها يتكلمون ولايتكلمون تتحرك شفاههم دون كلمات، لاتسمع ولاترى فعيونها معلقةٌ على كوة نورٍ صغيرةٍ مفتوحة في سقف الغرفة
تلك الكوة أسرّتها بالأمل، تخاف أن تزيح عينيها عنها فتختفي، شعرتْ بهدوءٍ لاتعرف مبعثه، هل هي فتحة النورالصغيرة التي تسللت منها رائحة القهوة التي كانت تعدها، رائحة السحلب الساخن مع القرفة، صخب الأطفال ونداء الباعة ، رائحة الخبز الطازج، وضجيج التلاميذ على الدرج يوقظ الغافلين.
يدٌ تمتد لها فتصعدُ روحها أنيقةً جداً، ، تلك اليد تأخذها في جولةٍ طويلةٍ أمام منزلها الركام، أمام أبواب مدرسة مقفلة بالسلاسل، شارع قديم وعربات خضروات وفاكهة، ثياب معلقة بعشوائية، امرأة مسنة تبيعُ ماطاب من النباتات الطبيعة   مع عفوية الصدق في ملامحها وصوتها، رائحة محل العطارة وبعض الفئران الصغيرة المختبأة في درج المنزل الذي يقودها للأعلى، ثم تقودها جنية الكوة لقريةٍ نائمةٍ على كتف الأحلام حيث الأشجار والورد وزغاريد الأجراس في رقاب الخراف، والجوز المتساقط تحت الأشجار، والندى الذي يثقل عنق الأزهار، ثم لمدينةٍ صاخبةٍ واضحة المعالم كالشمس، جميلة تفوح من كل زواياها رائحة الياسمين والقهوة ،
ياألهي ما أكثر المدن الراقدة في روحها!! ماأكثف ذكرياتها!! وماأعمق حبها للتفاصيل التي كونت نسيج ذاكرتها .
سقطت من تلك الكوة على سريرها، كان سقوطاً للأعلى ، أدركتْ والنوم يغالب أجفانها كم هي ممتلئةٌ وصاخبة، صرخة الماضي في خاصرتها والحاضر الذي مازال يعلمها، والمستقبل الجاثم على رصيف الانتظار، و جنيٌ مختبئٌ بين ضلوعها يحرضها على البقاء قائلاً : ذاكرتك ليست قبواً للألام وجثث الأحلام ، بل مأوى ليتامى القصائد وكبار الحنين والوجع، وملاذاً للمبتسمين دون شفاه والمتكلمين دون لغة .
 تكورتْ على سريرها وعينيها على كوة النور كيف رُدِمَتْ؟ أرديةٌ كثيرة تغطيها، ومازالت ترتجف ليتحرر العرق السام
 من كل خلاياها ومسامها، هي في قبضة حمى فظيعة لم تفقدها الذاكرة والإحساس، بل جعلت كل العالم في قبضة يدها للحظات .
لم يكن الفجر قد لاح، لبست تعطرت تبرجت قليلاً ثم كسرت مرآتها المشوهة التي تعكس وجهها المتعب والشروخ في روحها، تلك المرآة الشفافة جداً الهشة جداً ماعادت تلزمها، 
فصوتها اليوم أعلى، وقامتها أطول، وصوتها نافذ، لبست الكعب الذي يؤذي قدمها، لتوقظ بصوته صمت الحياة في مفاصلها، هاهي ريحانة قلبها تعبق وهي تمتطي صهوة الحياة بقلمٍ ودفتر ممزقٍ وعبوةِ عطر، وفراشات مختبأة في بستان روحها، قويةً كما لم تكن يوماً، جميلةً كما لم تكن يوماً .
لقد تعافت ، وتلك العجوزة التي كانت تسهر جنبها بعد أن سقطتْ من الكوة، عصرتْ مع منديلها المفرد على جبينها الملتهب جثث الأحلام الساذجة، لتمضي كما ينبغي للحياة أن تكون، مستحضرةً قول شاعر لاتتذكرُ اسمه /قتل زهرة لايلغي قدوم الربيع/

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 4.33
تصويتات: 6


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات