القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

قصة: أحمد خاني الممسوخ

 
الأحد 30 اب 2020


إبراهيم محمود

هذه المدينة، كما يبدو، اختلط فيها النوم بالصحو، الكابوس بالواقع، وأنا كنتُ بلا نوم فعلي، بلا صحو فعلي، كنت بين الاثنين. وما أنا متأكد منه أنني كنت نائماً، لا، ربما شبه نائم، لأنه تناهى إلي أن هناك طرْقات على باب بيتي، طرقات خفيفة ومتقطعة، كما لو أن الطارق لا يريد إزعاجي وعائلتي، أو لحرْصه على عدم إزعاج من في العمارة، لهذا جاءت طرقاته خفيفة.
فززتُ من فراشي. كيف كنت واقعاً: نائماً أم صاحياً؟ لا أدري تماماً. فتحت الباب، ومضى نظري باستقامة، لأنظر من سيقابلني خارجاً. فوجئتُ، لا إنسان، بدا لي أنه جسم متكور على نفسه، لم أمعن النظر فيه، أهملته، لا بد أن النوم أثقل علي، أو ما يرِدُ من عالم النوم في وطأته علي، وحاولت إغلاق الباب، وأنا ثقيل الخطو، فجاءني صوت خافت: ألم تعرفني؟


هناك شعرتُ أنني صحوت تماماً، ليس هذا فقط، إنما مع رهبة غمرتني بداية، ثم تلاشت قليلاً، حين أبصرت تباشير الصباح في أول طلته خارج العمارة، حيث الشارغ يستحم في الضوء.
فتحت عينيّ على اتساعهما، لأتأكد مما هو أمامي، أو ما يمكن أن يكونه، وأنا أحاول الانحناءة عليه بحذر. عادت الرهبة لتتلبسني! كان جسماً غريباً حقاً، ما لفت نظري هو وجود وجه يُسكَن إليه، وجه بشري في معظمه، وجه طفل، مجتاحاً بلحية مستدقة شهباء اللون، وعينين، هما نقطتان تشعان داخل محجرين يعلوهما هدبان باديا السماكة، نافرا الشعر.
لم أجبْه، إنما حاولت تفحصه، وأنا أنتظر منه تعريفاً به، بنفسه؟ لأن ما عدا الوجه لا شيء يستحق في مقاييسنا المعتادة، لأن يدرِجه في خانة متطلبات وجه كهذا.
رأيتُ شقاً طولانياً، أبان عن شفتين ناعمتين مطبقتين على بعضهما، وقد اتسع، وصوت صادر منه:
-أنا أحمد خاني !
قالها دفعة واحدة، ودون تقطُّع أو بتمهل !
هنا تراجعت إلى الوراء لاشعورياً، وقد اضطربت، رغم تقدمي في العمر، وقطْعي لمسافات بعيدة في ظلمات الليالي ووديانها وسهولها. أهو صوت حقيقي؟ ساءلت نفسي .
-نعم، أنا أحمد خاني، أحمد خااااني !
رددتُ وراءه دون وعي مني، ومستفهماً:
-أحمد خاااااني ؟
حاولتُ تفحصُ ملامحه، وأن أشمله بنظرة عامة، لأعرف ما يحمله الجسم من أعضاء خارجة. كان متكوراً، كما لو أنه قنفذ. هو لم يكن قنفذاً طبعاً، ولا أكثر من الأجسام المتكورة، إنما ليس للقنفذ وجه بشري أولاً، ولا يمكن للقنفذ أن يتكلم إلا في الحكايات التي ألفناها هنا وهناك ثانياً .
لم يمهلني المزيد من الوقت، وهو يعرّف بنفسه أكثر:
-أنا أحمد خاني الممسوخ، الممسووووخ !
قالها هذه المرة بصوت واضح، لا لبس فيه، وهو يشدد على كلمة " الممسوخ " .
-الممسوخ؟
قلتها بلغة من يريد الاستفسار.
-نعم، أحمد خانـ"ـيك " الممسوخ، الممسوخ مذ مات قبل أكثر من ثلاثة قرون.
لا أدري ما كان علي القيام به من تصرف، حرْت في أمره، وأنا كمن يرى ولا يرى شيئاً، فما هو أمام ناظري، وفي زاوية لصْق الحائط بجوار الباب، وقد أضفت عليه مسحة متبقية من الظلمة غموضاً يرشّح رهبة، بقيت مسمّراً في مكاني، وظهري مقوس في الحالة هذه.
-نعم، أنا أحمد خاني، وقد جئت إليك هذا الصباح الباكر، لم أرد إزعاجك، رغم أنني أزعجتك، ولا أريد إيقاظ أحد آخر، أو أيّ كان، لا أريد لأحد يراني وأنا هنا، وأنا في الحالة هذه، إنما وحدك أنت لا غير، هو الذي قصدته، وأنا في وضعيتي، في خلْقتي هذه، لأنك أعلَم بحالي، حين كنت إنساناً من لحم ودم قبل أكثر من ثلاثة قرون ونصف القرن، أتنفس هواء الحياة مثلك، وأستطعمها مثلك، وأنام وأصحو مثلك، وأعاني من أوجاع الحياة مثلك، وأنت ربما تعلم عني أكثر ما أعلمه في نفسي وعن نفسي، وبعد كل هذه السنين.
بقيت كالمتبلد في المكان، وبصعوبة تمكنت من قولة:
-أأأنا، وماااذا يمكننني فعـ...فعله ؟
تحرك الجسم، كأنه يتنفس بكامله، ووجه يضيء هذه المرة ناحيتي:
-أنا أحمد خاني الممسوخ. نعم، الممسوخ، مسخني أكرادك، وكانوا كردي، أنا الآن ممسوخ تماماً، مذ كنت وإلى اليوم، ولم أعد أتحمل هذه المسوخية التي جعلوني بها، وهم لا يكفّون عن إماتتي، يحتسون نخب نشوتهم بجمجمتي، وينفخون في أعصابي. جئتك لكي تكتب عما قلته بطريقتك ولا تعدِم أسلوب القول، ليكفّوا بلاهم عني، لينسوا أن هناك أحمد خاني، وخاصة الذين لا صلة وجدانية بيننا كلياً ساسة وكتاباً وحتى مع نسبة من العامة، يرددون أشعاراً لي، ويغنّون أبياتاً شعرية من " مم وزين " التي كتبتها ليكسبوا رضى الناس ويبتزوهم، وما أبعدهم عما كنت أريد وأنشد وأركّز عليه. مالي وهؤلاء الذين يستخفون بذكْري وشعري وحياتي ؟!
التقطت كل ما قاله، وثمة ما يشبه الماء الحار وهو يغتسلني وقد ازددت تعرقاً.
-ممسوخ جاء لمقابلة من يستعجل رحيله الأبدي كما كنت ؟
قلتها هذه المرة دون تلكؤ، ولا أعرف كيف واتتني الجرأة، فأسمعني صوتاً أكثر وضوحاً :
-أنا على علم بحالك، إنما مازال لك النفَس لتقول ما نقلته إليك، ربما سيكون كلامك صيحة في واد، إنما هناك من سيلتقطه، وهناك من سيتهمك بالجنون الكامل والبله هذه المرة. قلْها ومت.
قالها وهو يشدد على كلمة " ومتْ "، تلك أمانة في رقبتك .
-ربما سأكون مثلك بعد ثلاثة قرون، ولو بشكل مختلف، مثلك ممسوخاً، آتي إلى مكان كهذا، وأنا أطرق باب دار أحد من يستحق طرْق بابه، لأقول له ما قلتَه لي.
فجاءني الصوت موجوعاً، ومشوباً بالغضب:
-هذا إذا بقي أكرادك إلى ذلك التاريخ .
وكزوبعة هوائية صغيرة حلزونية، دار في المكان سريعاً واختفى سريعاً .
فاجأني بحركته تلك، بالطريقة التي تبعث على الخوف حقيقةً، وقد توارى عن النظر كلياً.
وقفت جامداً في مكاني، ويدي اليسرى على ضلفة الباب نصف الموارب.
تقدمت قليلاً، لأمسح المكان خارجاً.
كان كل شيء كأنه لا شيء. أبواب العمارات البادية القِدَم مسدودة، الشوارع بدت مسدودة، جرّاء الصمت المكثف في المكان، المدينة مسدودة، كما تراءت لي، نظرت عالياً، حيث السماء العلى، كانت هي الأخرى، كما خيَّل إلي، مسدودة، جنح بي خيال عصى حدود المعتاد، وهو يقارب بوابة الإله الكبرى في سدرة المنتهى، فكانت هي بدورها مسدودة.
تقهقرت إلى الوراء، حتى بلغتُ سريري الواطئ ذا النابض والقديم جداً. شعرت بضيق تنفسي، وأنا مسدود جسماً وروحاً على وقْع ما رأيت وسمعت وكلّفت به في هذه المدينة البالغة الغرابة أطواراً .
======

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 4.2
تصويتات: 5


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات