القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

قصة: «مَمْ و 62»

 
الأربعاء 03 ايار 2017


محمود بيكاس

طبيعةٌ نائية بمعناها الحرفي. بلدةٌ رابضة على الرمال ، حيث لا مياه ولا أشجار ، وكل مواسمها هي الحر والبرد. خزينة الأهل مليئة بالحكايات والأساطير، بدءاً من "سنة الخير" وصولاً لسنة "الصقيع العظيم" تقول الحكاية بأن النهر العظيم الذي ذُكرَ في كتاب الله قد تجمد. بلدة تفتقر إلى كل شيء بإستثناء ملامح الأشباح التي تمشي فيها. لا تطلّ على أية جهة سوى السماء . في الشتاء تزورها أحياناً قوافل الغيوم بخجل، كوصية الفقير لا يملك ما يورثه للآخرين. الزمن في تقويمها هو الليل والنهار ، الصيف والشتاء.


فتحتُ عيناي في هذه اللامكان في سنة البؤس، يوم الأربعين لوفاة أحد الأولين. إحتاروا في منحي اسماً، الداية لها أخ وإبن بنفس الاسم وأعطتني ذلك الاسم أيضاً. بالنسبة للأهل إعتبروه بركة و كَـ رد للجميل، وهم منحوني اسمهم كعربون محبة للعائلة.
وبين فترة وأخرى تزورنا قوافل الغيوم . بدأت أكبر والاسم يشاركني كل شيء، حتى وصل بي الأمر بأني أعتبرت نفسي جزءاً منه. وأحياناً أتخيل ماذا أفعل لأجعله مشهوراً في هذا الوجود. 
إلا إن للقدر رأيٌ آخر ! فاسمي لا ينتهي بإسم العائلة كما اسماء الآخرين بحكم العادة. عندما نضجت حواسي إنتقلنا من ذلك المكان إلى بلدة أخرى يمر بقربها طرقاتٌ تسير عليها مواكب من السيارات والباصات، هذه الطرقات كانت تضيع معظمها في المدن وبعضها تضيع في القرى والحقول. البلدة الجديدة لها أربعة جهات والسماء، سماؤها مسكونة بأصوات على طول الشتاء. أخذنا بيتاً بالقرب من المدرسة لا أعلم لماذا ذلك البيت تحديداً، بكل بساطة هذه الأمور خارج حساباتي، فكل ما هو مطلوب مني ان أغتسل مرة في الاسبوع وفي معظم أوقات الغسيل كنت أتخذ من بيت الأقران ملجاً إلى أن تتعب الوالدة في البحث عني، لكن الطريدة لابد ان تقع في الفخ "المصيدة" عندما يشتد عليها الجوع والعطش، ويتم محاصرتي في المطبخ مُتلبساً وانا أُجاهد لأُفرغ ما في الطنجرة الى المعدة.
ويأتي دور الوالدة في تجريدي من الزي الرسمي الذي هو عبارة عن كنزة وبيجاما لكي لا أشكل فرار "بمعنى العسكري". وبعدها آخذ حصتي من الضرب بالصابون الغار وأنا مقرفص في "الطشت" وعيناي مملؤة بالصابون، البكاء والدموع واللعاب ، لحظات تمتزج بالألم. هذا الحمام هو بالنسبة للطفولة كَ طقس إحتفالي لابد أن يحصل في كل أسبوع.
إلا إنه في هذه البلدة توجد مياه للزراعة ، في بعض الأحيان كنا نقصد أحواض المياه المخصصة للزراعة للإغتسال. الطفولة عالم من الفوضى اللذيذة.
عندما حان موعد بداية العام الدراسي لأدخل المدرسة ؛ كانت هناك إشكالية كبيرة ، لكني لم أكن أعرف ماهية تلك الإشكالية ، أدخلوني المدرسة باسمي اما اسم العائلة "الكنية" فقد أرفقوا بإسمي اسم الجد "محمود .....". هكذا ظننت بان اسمي أصبح في سجلات الدولة على اعتبار المدرسة مؤسسة تابعة لوازرة التربية والوزارة جزء من جهاز الحكومي، لكن في الحقيقة لم يكن كذلك. في عامي الثالث من وجودي في المدرسة طلب مني الوالد ان استفسر لتسجيل اخ لي يصغرني بسنوات، لا أعلم كيف كانت حساباتي وقتها، لكن كنت أعلم بأن أخي اسمه ليس عربياً ، لذا كنت أعتقد بأنه لا يمكن ان يكتب أسماً كوردياً بالأحرف العربية "سذاجة طفولة". وأخبرت المدير بالموضوع التسجيل، إلا إني أخترت اسماً آخر لأخي، قلت في نفسي عله يُكتب بالاحرف العربية.

كثيراً ما قرأت مذكرات السجناء وحزنت لاحزانهم وتألمت لعذابهم، وفي الكثير من الاحيان بكيت لأجلهم. إلا إنني عندما أتذكر الطفولة ، أتذكر تلك العذابات. أيام المدرسة ، سنوات الرعب، إلى الآن لا تستهويني اللغة العربية ولم أُتقنها بعد! لأن المُدّرس كان بهيئة ضابط مخابرات، أسلوبه كان عنيفاً جداً، قد أكون مجحفاً بحقه إذا قلت عنه بإنه كان مجرماً ونحن ما نزال أطفال نفتح أعيننا تحت سياطهم. جُل همنا أن نحفظ الكلمات لنتفادى العقاب.
وفي السنوات التالية اخذت أستعين بأسم الاخير لاسماء ابناء عمي عوضاً عن اسم جدي وهكذا انتقل اسمي من "محمود ....." الى محمود آخر لعائلة اخرى. وكلما تقدمت بي السنوات ونضجت حواسي ادركت عدم الانتماء الى هذا المكان، كالبلدة الاولى التي لا طريق إليها سوى السماء. وانا لا طريق إلي سوى هذه الحروف الخمسة ، تكرمت بها الدايا على طفلٍ ولدَ في عام البؤس والشقاء عام 62.
 

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 5
تصويتات: 11


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات