القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مقالات: عمرحمدي:ماوراء اللوحة

 
الأثنين 10 اب 2015


إبراهيم اليوسف

عندما فتحنا أعيننا في سبعينيات القرن الماضي على المشهد الثقافي في سوريا، كنا كفتية حالمين، نصطدم بندرة، بل بانعدام هاتيك المصادر الثقافية التي تتناول خصوصيتنا كشعب كردي، حيث كانت لغة المدرسة هي غير لغتنا، ولغة الكتاب غير لغتنا، ولغة الدائرة الرسمية غير لغتنا، ولغة الإذاعة غير لغتنا، ولغة الجريدة على رفوف لوحة العرض في المكتبة غير لغتنا، كما لغة الكتاب المعروض وراء بللور المكتبة، وأرففها، كما لغة مكتبات بيوتنا على ندرتها، بل كما لغة الجريدة التي يوزعها الحزبي الكردي سراً، يقرؤها آباؤنا في قراهم البعيدة، أوفي بيوتاتهم المهملة على أطراف المدن، ما جعل أسئلة صغيرة تندلع في أرواحنا التي لم تقف عند أي حد موسعة دوائرها من دون أن تتوقف حتى الآن:


وماذا عن لغتنا الكردية لغة بيوتنا؟
كانت الإجابات تأتي تترى من أفواه آبائنا ساخنة على نار عواطفهم المتأججة: نحن شعب عريق، وثقافتنا ممنوعة، وغير ذلك، مما كنا نتلقاه بيقيننا الفطري، أنى أحسسنا تفاقم حالة عطشنا تجاه لغتنا، رموزنا، فما إن كنا نسمع باسم القائد ملا مصطفى البرزاني من خلال إصغائنا إلى إيقاع حروف اسمه هذا الذي تصلنا ذبذباته على ضوء قناديل الكاز في بيوتاتنا الطينية، من خلال أصداء صوت المذيع عبر الترانزستور وأهلونا يتلقون أخبار "الثورة الكردية" حتى كنا نقول:"ها نحن..!".
وجدنا أنفسنا في حاجة إلى أن نسأل ذوينا عن رموزنا، وكانت الأسماء تتالى تترى، لاسيما حين نكون قد ولدنا في أسر لذويها علاقة بشؤون الثقافة، وإن كان من خلال أحد مداخلها: وهي الثقافة الدينية"، كما هو حال أسرتي، حيث أتعرف على الصحابي الجليل: جابان الكردي، وأستظهر أسماء سلسلة الأعلام الكرد بمن فيهم مشايخ النقشبندية ممن تضيء أسماؤهم سواد حبر الكتب المطبوعة. كنا ننتظر في درس التاريخ اسم صلاح الدين-أو البارزاني حتى وإن عربوا اأولهما، وقرأوا ثانيهما كما يريدون، بيد أننا كنا نزداد تشبثاً وحباً له، وإن كانت عيون كثيرين من حولنا تتطلع بخبث لاصطياد ملامح وجوهنا، لضبطها في حالة خيانة لما شبوا عليه من ثقافة تضخيم الذات وإلغاء الآخر.
كان شريط الكاسيت أحد روافد ري أرواحنا، ننهل من أصدائه الكثير، ونحن نصيخ السمع في بيوتنا إلى أغاني كوكبة من فناني تلك المرحلة، لتكون الأغنية والموسيقا عمودين فقريين نتكىء عليهما، ونحن نواصل لحظاتنا الحياتية، نستظهر بعض الأغاني، كما أسماء مغنياتها ومغنيها:
أجل لنا أغنياتنا لنا موسيقانا 
كنا نقولها، من دون أن نغلق أبوابنا على أصوات مغني جيراننا، وعالمنا، فكنا نسمع فيروز وربما عبدالحليم أو فريد الأطرش، كما نسمع محمد عارف جزراوي وعيششان أوكما سنسمع محمد شيخو أو شفان برور لاحقاً، حيث كانت لكل منا معجم أسماء مغنيه، نتابع منجز حناجرهم واحداً تلو الآخر، ونحن نرددها، وإن كان سيتم منع بعضها من محال بيعها، ويتم كسر هذه الأشرطة في الشارع، أو تتم مصادرتها، ويضبط باعتها، من دون أن تستطيع هذه الممارسات ردعنا عما يعتمل في نفوسنا التي تتطلع إلى غيمات ثقافة أخرى، غير الثقافة الرسمية، هي ثقافتنا تحديداً، بل وتتطلع إلى غيمات فن آخر، هوفننا، ما كان يحدوبنا لمعرفة أسماء الممثلين من بني جلدتنا في مسرح وسينما البلاد، حتى وإن كنا سنكتشف أن أكثر هؤلاء لا يعرف لغته، أو نسي أرومته..!
في بداية السبعينيات، حيث سأدرس في مدينة الحسكة، يقودني شغفي القرائي إلى آرمة أي محل يوحي اسم صاحبه بكرديته، لفتت أنظاري إعلانات بعض معارض الفنانين التشكيليين: أسماء عربية- سريانية- آشورية- وأسأل: أليس لنا من بينها أحد؟، يقول لي بعض أترابي: عمر حمدي كردي و هو ابن قرية تل نايف، وبشار العيسى كردي وهو ابن قرية، وعبدالرجمن دريعي كردي وهو ابن عامودا، وعمر حسيب كردي و هو ابن الحي الذي تسكن فيه. تثير كلمة"تل نايف" أحاسيسي: أتذكر ملامح تلك القرية، قليلة البيوت، على بعد بضع كيلومترات من بيتي، ألمحها على امتداد اليوم، عن بعد،حيث كان قد أقام فيها أحد عمومتي بعضاً من الوقت، ربما قبل ولادتي، إذ تبدو تلتها لي وأنا في مسقط رأسي"تل أفندي" من خلف قرية شيخ أمين، ألجأ إلى عمي، إلى عمتي، أسألهما عن عمر، فيقال لي: هو ابن فلانة وفلان، كل من ضمن فضاء معرفته، أسأل أترابي لأعرف الرجل أكثر، باعتباره الأقرب إلي مكانياً، فيشار إلى بيت في منخفض- أونزلة- على طريقي وأنا آتي إلى غرفتي المستأجرة، من بيت أحمد سنانيك، أحد وجوه قريتي الذين كنت أحبهم، ليقال لي: انتقلوا إلى وسط المدينة، أو طرفها، قرب مجرى الخابور، بعد أن كانوا في قرية جنوب الحسكة، على ضفة الخابور، ثم يريني أحدهم أباه، وهو يقول لي: إنه يعمل في المكان الفلاني، لأطلع على قصة معرضه في دمشق، ومحرقته التي أجراها للوحاته، وسر تسميته ب"مالفا" إحدى شخصيات تشيخوف التي أعجب بها، كما أعجب بصانعها، وهي تقارب إيقاع الاسم الكردي، ثم يقع بين يدي كتاب ل"جانيت كوركيس" زوجته، التي هربته عبر لبنان إلى أوربا، وأتابع أصداء اسمه كفنان عالمي.
بعد أن أنتهي من المرحلة الإعدادية، أتعرف في قامشلي على الفنان فؤاد كمو، عن طريق شقيقيه ممو وزيني، بعد أن يحضر عرض مسرحية شاركت فيها، لأجد لديه الكثيرمن الأسئلة الروحية التي أحتاجها، يحدثني عن عمر وبشار العيسى من خلال تفاصيل يومياتهما، حيث أقف مبهوراً بإبداعهما تظهر فيها ملامح إنسانهما، وبيئتهما، وعذابات أهلهما، ونظرات والدتيهما، وإن كانت دروب الحياة والمواقف من شأنها أن تبعد بين هذين الفنانين. أتعرف على بشار العيسى، بعد أن تواصل معي في اليوم الثاني من انتفاضة 12 آذار، وأعده صديقاً، غير أن علاقتي بعمر لم تتعزز، ولم ألتق به إلا خطفاً وأنا في حي الكيكية- أوحي الكرد الدمشقي، أثناء أول زيارة له إلى أهله، ، وأنا بصحبة أصدقائي الفنانين من آل حسو: رشيد- عبدالحميد- محمود عندما كان أبوهم مريضاً، نتعارف على عجل، حيث كان عمر برفقة أبيه وشقيق له، ربما كان صديقي عصام الذي ستجمعنا-العسكرية- في حمص بعد سنوات على ذلك، دون أن تتعزز دقائق اللقاء العابربأي تواصل في ما بعد.
لقد استطاع كثيرون من أبناء جيلنا من المهتمين بثقافة أهلهم، أن يجدوا في لوحات فناني الرعيل الأول ما يمكن أن يخترق به الحواجز، من دون أية حدود تذكر، حيث كانت حركة الألوان التي تقودها الأصابع والريشة في فضاء اللوحة عبر جوازات مرورها الخاصة،  ثيمة فناني هذا الرعيل كل حسب درجة اهتمامه-  بل وصورة أمل وألم أهله، كما يريد، وإن كانت معرفة سيرة عمر الذي يكتب ضده المخبرون تقاريرهم، لها ملامحها، كما لكل من هؤلاء ملامح موقفه، إذ جند أبعاض هؤلاء أنفسهم لمنعه من العمل في عالم التعليم ، ليلتقط الصدمة، بموجة من بكاء، كي يعمل في دار السينما خطاطاً، إلى جانب عمله كمعلم وكيل، عسى أن يسد عمله رمق أم حانية، أو أسرة ، وهو الذي طالما عمل في حقول القطن، يجمع ندفه في كيس آخر، غير زوادته اليومية التي تقدمها له أمه وفيها حبتا بندورة ورغيف خبز، إلى أن يجبر إللالتحاق بشاحنة-العسكرية- التي تخطفه من أسرته، حيث سيتم-الاحتفاظ- به وهو في عسكريته الإلزامية، لدى القوات الخاصة التي كان يقودها رفعت الأسد، يتم اختياره للتفرغ في مجلته"الفرسان"، مكرهاً، ليهرب من هذا الجحيم الذي تلا جحيم عذابات أبيه الذي طالما ضربه وأمه، حتى بعد أن أصبح معلماً، أوفناناً كبيراً تحتفل به عاصمة البلاد، أنى أتيحت له الفرصة.
أجل، قد نجد انتقاماُ ما، من لدن عمر، تجاه أبيه، وهو يرتمي بين أحضان أمه: رائحة، وذكرى، ومعاناة، ليتم التنفيس عن خلل هذه المعادلة، بأشكال عديدة، وهوما جعل هذا الفنان العالمي الكبير الذي أطبقت شهرته الآفاق يدفع ضريبة ثالثة ترتبت على كل أصناف عذاباته المريرة، وغرباته المتتاليات، وإن كان اسمه سيظل من بين عداد أهم أعلام الفن، ولتحيل لوحته إلى بيئة ماهي بيئته، وإلى أرومة ما هي أرومته، حتى وإن لم يسمها، جهلاً، كما يعترف، أو تجاهلاً، كما قديتهم بذلك، ضمن فضاء زمني محدد، لاعتبارات تتعلق بعقدته-تجاه الأب- إلى أن تقوده ألوانه إلى منابعه الأولى، ولكن بعد أن أفنى عقود عمره، موزعاً إياها على مراحل محددة، لكل منها علامتها الفارقة..!
*جريدة المستقبل- نوافذ

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 5
تصويتات: 9


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات