القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

أغاني الإيزيديين مدونة ملاحمهم البطولية وتأريخهم وأحلامهم وديوانهم .. ملحمة درويشي عبدي أنموذجاً

 
السبت 23 اب 2014


إبراهيم اليوسف

أثلجت قلبي ياضيفي
بالله لا أريد منك المال
لا أريد منك جرناً من شجرة البخور في حقل "بنافي"
ولكني أريد منك
خيمة من أربعة وعشرين عموداً
على جبل كوكب عشيرة "الملان"


وجه الخيمة للظل
وظهرها للشمس
وسأطلع على أعلى سقفها
وأنادي ثلاث مرات
وبأعلى صوتي:
حرام عليَّ الرجال
حرام علي الزواج من بعد عيني
عزيز القلب
درويشي عبدي
الفارس المغوار....!
"مقطع من ملحمة درويشي عبدي المغناة"

ثمة روح أبية، ينماز بها الإيزيديون -وهي الروح الكردية الأصيلة التي يحتفظون بطبعتها الأولى أو طبيعتها الفطرية- و كانت وراء إصرارهم على مواقفهم، على الدوام، من دون أن يحنوا هاماتهم أمام أي جبروت، مادام أن ثمن ذلك جد زهيد، في عرفهم، إذا ما قورن ذلك، بكرامتهم، وشرفهم، ومبدئهم، وكأن لسان حالهم-هنا- مرافعة طاووس ملك، أمام الخالق، وهي: "طاووس ملك من نورذاته/المخلوق الأول الذي خلقه الله/ قبل أن يخلق الملائكة الستة الآخرين/لم يسجد إلا له/ أمره بالهبوط إلى الأرض/ قال:/ كيف أسجد لغيرك وأنت الذي أوصيتني/ ألا أركع إلا لجلالتك ثم كيف أسجد لآدم/ الذي هو من تراب وأنا مخلوق من نورك؟؟/ "من حوار ملكي طاووس مع الله".
وبعيداً عن التطواف في فضاءات النصوص الدينية، فإن الأغنية الشفاهية الإيزيدية، تعكس صورة حياة هذا المجتمع، بل التاريخ الكردي كله، إلى الدرجة التي يمكن أن يقال: تاريخ الإيزيديين هو أغنية، بل وتاريخ الكرد برمتهم محض أغنية. أجل، فالأغنية تختزل تاريخ هؤلاء جميعاً، حيث لافكاك بينهم، مادام أن تاريخهم الأصيل لم يتعرض للتصحيف، والتحوير، والتشويه، فحسب، وإنما تم  الإجهاز على كل مدوناته، لاسيما الإيزيديون منهم، إما عبر إخضاعها لمحارق معروفة، أو حملات رميها في مياه دجلة والفرات، ترجمة لفتاوى محاربة" الجاهلية/ وهي الاستنارة هنا"، عبر الحكم عليها ب"الموت غرقاً" كي يبلل حبرها الماء، يحول لونه إلى سواد، مادامت غارقة في الكفر، لتكون هناك حضارة واحدة، وتاريخ واحد، وليس أدلّ على هذا من أن الأبجدية التي كتبت بها النصوص الكردية-عامة- والإيزيدية-خاصة، قد غيبتا،  ما دفع هؤلاء الكرد، الإيزيديين، إلى إتباع خصيصتين، وهما، إما عبر حفظ نصوصهم الدينية في الصدور، بوساطة كهنة، ورجال دين، بمراتب محددة، أومن خلال الأغنية التي كانت منبرهم، خلال قرون طويلة، تعكس أيامهم، وأحلامهم، أفراحهم، وأحزانهم، تفاصيل حالات السلم أوالحرب التي يمرون بها، على حد سواء.
لقد نشأت في المجتمع الإيزيدي نخبتان، أولاهما: القوالون، وكلمة القوال إما هي مأخوذة من كلمة ال"كال" أوالكاهن، أوهي مأخوذة  من الفعل الثلاثي "من العربية" "قول"، أي هؤلاء الذين يستظهرون-الأناشيد والأقوال الدينية- وهم مرموقون بين ظهراني مكانهم، ومجتمعهم،  صلتهم مع الأمير، أوالبابا شيخ، كما صلتهم مع العامة، بدرجاتهم المصنفة، على نحو مباشر، وثانيتهما "المغنون، وهؤلاء المغنون دائمو الحضور، كما القوالون، بل هم موجودون في موازاة معهم، وإن كانوا يتمتعون بجماهيريتهم الأوسع، عفوياً، فهم يعكسون الرؤى الدينية عبر أغانيهم، في الوقت الذي ينصرفون خلاله، إلى ما هو راهن، باعتبار النشيد الديني ينتمي- بأكثره- إلى الماضي، في إهابه المقدس، بيد أن الأغنية تتفاعل مع اللحظة، وتعكس أصداء العاطفة، والوجد لدى أبناء هذا المجتمع، وهم في حالات هيامهم، وشغفهم بالحياة، كما أنها تعمل بوتيرة عالية، كي يكون المغني "وزير إعلام بيئته" يرافع عنها في وجه خصومها، تفرد له مكانته في صدور مجالس الأعيان، كما يرافق الفرسان إلى ساحات الوغى،  يرصد بطولاتهم في الوقائع،  يستحثهم على  الذود عن حمى الأهلين، وحياضهم،  في وجه الأغيار، يذمهم.
يحفل التاريخ الإيزيدي- كما هو التاريخ الكردي في فضائه العام- بهؤلاء المغنين الذين كانت أغانيهم "ديوان الإيزيديين" أو"ديوان الكرد" بعد أن انصرف الشعراء الكرد إلى الكتابة عن الإسلام، وهم مبهورون به، على مدى قرون،  وباللغة العربية، لغة الدين الجديد، بل وحتى بلغات الأعاجم، وفق التوصيف العربي: أي الفرس، ومن ثم الترك .بحيث أننا-الآن-نجد في الأغنية سجلاً حافلاً بتفاصيل حياتهم، فهي التي تناولت قصص الحب الأثيرة، وهي التي تناولت قصص الحرب، بل هي التي جمعت بين الحب والحرب، في آن، كما سنجد ذلك في ملحمة البطل الإيزيدي درويشي عبدي التي تكاد تختلط بالأسطورة، ليس من خلال علاقتها بالواقع، أو نأيها عنه، ونحن نتعامل معها هنا من منظور فني، ثقافي،  بل على صعيد البطولة الخارقة التي يحققها بطلها الإيزيدي.
يحتاج الباحث في تاريخ الأغنية الإيزيدية، إلى معجم خاص، من الأعمال التراثية، بل والمعاصرة، وهي بالمئات، استطاع بعضها أن يوثق، لاسيما عبر إذاعة بغداد، في فترة الحكم الذاتي الأول11 آذار1970، أي تحديداً في مطلع سبعينيات القرن الماضي بعد اتفاق بغداد مع القائد الكردي الراحل الملا مصطفى البرزاني على ذلك، وكانت تلك الفترة غنية من خلال أرشفة الأغاني والملاحم الكردية، ومن بينها أغاني الإيزيديين، ممن عملوا في إذاعة بغداد بعيد اتفاق الحكم الذاتي مع المناضل البرزاني الراحل .فقد تم توثيق جزء منها، بيد أن جزءاً أكبر منها، نهب من قبل الشعوب المتعايشة مع الكرد، لاسيما من قبل الأتراك، الذين طال نهبهم للكنوز الكردية، كما جغرافيتهم، وفي مطلعها: الأساطير، والأمثال، والحكم، والملاحم، كما ملحمة خجي وسيامند، ومم وزين، وفرهاد وشيرين، وغيرها من عشرات الملاحم الأخرى، مسرحها أرض كردستان، والغريب كما قال الناقد البروفسيور عز الدين مصطفى رسول في حوار أجريته معه، قبل حوالي ربع قرن- وهو منشور في أكثر من منبر- أنه حتى الشاعر التركي التقدمي ناظم حكمت" 1902-1963   "  الذي صاغ ملحمة فرهاد وشيرين لم يذكر أنها كردية..!؟:
ويمكن للباحث في الشأن الإيزيدي، على نحو خاص، أن يسأل: ترى لو لم  يلجأ الإيزيديون إلى الموسيقا والغناء، ولم يعطوا مغنيهم، وقواليهم الأهمية الكبرى، فما الذي كان قد تبقى منهم، وسط هذه العزلة المفروضة عليهم، حيث كانوا محاصرين برهبة الجبال، وأسنة الرماح، ولجج الأضغان، و ألسنة ألهبة الأحقاد، وأنصال السيوف المتربصة بهم، باستمرار؟، لاشيء يخترق الصمت المطبق حولهم بإحكام، غير صدى أصواتهم، وحفيف أشجار جوزهم، وزيتونهم، وبللوطهم، وهسهسات مياه ينابيعهم، وزقزقات طيور مكانهم، بل ورنين خشخشات خلاخيل نسائهم، وألحان آلاتهم الموسيقية. ومن هنا، فإن الإيزيدي لم يكتف بعقد حلقات الرقص سبعة أيام، بلياليها، المتتالية، في السراء، حين يكون هناك عرس ما، بل هو يفعل ذلك في الضراء، إذ يشيع الميت إلى مثواه الأخير، على إيقاع الموسيقا، منذ لحظة إخراجه من منزله، وإلى لحظة مواراته الثرى، ويتواصل ذلك على مدى الأسبوع، أيضاً، بل وفي كل أربعاء، أو مناسبة، مادام لهم فهم الخاص لديمومة الأرواح، وتجددها، وهم يفعلون كل ذلك،  شأن أي عرس، ناهيك عن حضور الموسيقا في أيام الأربعاوات المقدسة، وأيام النوروز، والأعياد الربيعية كلها، وغيرالربيعية أيضاً.
ولعلَّ ما يبرهن أهمية دور الأغنية والرقص في حياة الإيزيدي، هو أنهما-كما يقول الصديق الباحث الإيزيدي صباح كنجي  سبقا التدوين، ليس عند الكرد، وإيزيديتهم، فحسب، وإنما  في حضارات الشعوب كلها،  الأمر الذي  يجلي وبوضوح-بحسب  استشهاداته التي اعتمدنا بعضها هنا- أن هذين الفنين سبقا الكتابة، والرسم، وحتى الشعر، وغيره من الإبداع البشري، وإن كان هذان الأسلوبان نفسيهما ليتطلبان التوثيق عبر وسائل وأدوات أخرى، باتت من مستلزماتها، وها نحن الآن لنجد أغنية الفنان، أو رقصة الراقص، لا شأن لهما ما لم توثقا عبر الصورة، ومن دون أن يتم الاستغناء عن أداة التدوين الأولى، أي: الكتابة، ومما جاء في أغنية شيخ ميرزا آقوسي التي نستشهد بها، لإضاءة روح البطولة عند الكردي، كما سنفعل مع ملحمة درويشي عبدي، على نحو أكثر تفصيلاً، لنبين أصالة، وعمق، و شساعة حجم ثقة الفارس الإيزيدي بقدراته التي تتجاوز حدود الاسطورة:
شيرين تغني للشيخ ميرزا الأسير في سرايا ديار بكر
شيخي العزيز
ولدي الغالي
لقد نبهتك بألا تثق بالعثمانيين
لأنك مازلت شاباً
جاهلاً
ولا تعرف جيداً مدى مكائدهم
يرد الشيخ ميرزا ذو الجدائل:
أماه
أخبرتك
أن تجلبي لي خنجري
المخرز قبل طلوع الفجر
فوالله لو حققت ما أردته منك
لأعددت مجزرة لهؤلاء الكلاب
ولجعلت أنهار دمهم تسيل في ديار بكر
ما قمت به
لم يسبق إليه أحد
يا ولد حسن  وملو
يا وزيري ذا الجدائل
الذي صبغ أسوار دياربكر بالدماء...!.
وتعد الأغنية رئة الإيزيدي، عبرها يتنفس هواءه الأكثر مقدرة على مده بعناصر الديمومة والحياة، فقد حافظت الأغنية على لغته، كما عكست تقاليده، وطريقة تفكيره، وتضاريس روحه، وشموخه، وعدم استكانته أمام الظلم، أياً كان مصدره، بل إنها مرآة تعكس علاقته بمنظومته الأخلاقية، و القيمية، وقد استطاع عبرها أن يحافظ حتى على وجوده، وقد ساعده على ذلك اعتبار الجبل عنواناً رئيساً له، حتى وإن كان له عنوان سهلي، مواز، واحتياطي، يلجأ إليه طلباً للكلأ أو الماء، من أجل ماشيته، لذلك فإن الثقافة واللغة الكردية بقيتا صامدتين أمام عوامل التذويب والمحو.

ملحمة درويشي عبدي أنموذجاً:
ترتقي ملحمة درويشي عبدي، إلى مستوى الملاحم العالمية الكبرى حقاً، كما الإلياذة، والأوديسة، والشاهنامة، والمهابهارتا، والكوميديا الإلهية، ودونكيشوت وجلجامش وغيرها،  و تروى بأشكال عدة، وإن كانت روايتها الأكثر انتشاراً هي تلك التي غناها" باقي خضر"، تطرح فيها قضايا عدة، ومن بينها كيف أن عامل الدين فرق بين الحبيبين الكرديين: درويش الإيزيدي، وعدولة الكردية المسلمة، حيث الأول هو ابن ملحم الشرقي، و الثانية ابنة باشا العشيرة الملية، الشهيرة، وتدور أحداثها في كردستان، إذ تلتقي نظرات عيني الفارس  بنظرات عيني الأميرة الحسناء، وتصعق شرارة الحب الإلهي، كي تضرم ألهبتها في براري، وقمم، روحيهما، من دون أن تنطفىء،  فتولد بينهما قصة حب نادرة، بيد أن حاجز الدين لا يمكن تجاوزه، وكما قصة مم وزين الكردية للشاعر أحمدي خاني،  التي يفرق بكو بين العاشقين، فإن كثيرين يتقمصون شخصية بكو، في هذه الملحمة، ويؤلبون الباشا على درويش، ليخطط لمقتله أكثرمن مرة:
وفي صباح اليوم التالي بدأ أفراد القبيلة بنزع خيامهم
وجمع دوابهم مستعدين للحظة الرحيل
وبدأ الرحيل من الساعة
وبينما هم في الطريق اقترب جيلوأوزولي من والد درويش
ولأنه يحترمه كثيراً ويعتبره بمثابة ابنه درويش
قال له:أبي مارأيك أن نتسابق
-لا يابني اذهب وسابق من في سنك
لابل أريدأن أسابقك
ما دمت تصر، فهيا
وبينما هما يتسابقان، وبعد أن ابتعدا قليلاً عن القافة تباطأ  جيلو
واقترب من والد درويش، قائلاً:
تمهل يا أبتي
ماذا تريد يا بني
أبي عندما نصل إلى الأرض التي تقصدها لننزل بها
لا تنصبوا خيامكم
ولماذا يا بني
لأن كبير القبيلة وضع خطة للقضاء عليكم حين تنصبون الخيام
ولكن لماذا؟، ما الذي حدث
القصة أنه في حديث لابنك درويش عندما تحدث عن عدولي
فسمع والد درويش مضمون  خطة شيخ القبيلة وبدأ كأنه لم يسمع أي شيء
وعاد إلى القافلة دون أن يكلم أحداً في الطريق
إلى أن وصلوا
وبينما اجتمعت القبيلة لنصب خيامها أمر والد درويش أهله
بعدم نصب خيامهم ومتابعة السير للخروج من بينهم.
 "اسم المترجم غير معروف من قبلنا"
وتسكن أسرة درويش، وأهله الإيزيديون بعيداً عن مضارب المليين، ويستمر ذلك ستة أشهر متكاملة، هي شريط زمني لا أطول منه، ولا أضنى، ولا آلم، لدى الفتى الهائم درويش، لا يذوق خلالها طعم النوم، بل يمضي في الفيافي، عسى أن يشمَّ رائحة مضارب خيمة آل عدولي، أو يستمد إكسير الأمل من ضوء خيمة أهلها- من بعيد- منبعثاً من قلب ظلام الليالي التي يهيم فيها على وجهه، وينام في البراري الموحشة، وحيداً،  ويظل الأمر على هذا المنوال، عندما يتم الإعلان ، من قبل تيمور باشا، بأن من يشرب من فنجان قهوته، في خيمته المنصوبة، ويذهب لمحاربة قبيلتين" إحداهما تركية والأخرى جيوسية، وينتصر عليهما، فإنه يهبه  ابنته "عدولة"، ويرسل بهذا الصدد رسالة إلى والد درويش الذي يحاول إخفاءها عن نجله الفارس، بيد أ ن الخبر يتناهى إلى مسمع الابن، الذي يلحُّ على أبيه معرفة فحوى  نص الرسالة التي يحاول إخفاءها عنه، بعد أن فارقت أسرته مرابع المليين، إثر  تخطيط الباشا لقتل درويش الذي باح على مسامع الشهود أمر حبه لابنته، إذ أن والد درويش يدرك أن هذا الإعلان تم من أجل الانتقام من ابنه الذي شاع أمر حبه للأميرة عدولة، بعد أن نمَّ أحدهم للأب الحائر عن مضمون الخطة، ما جعله  ينأى  عن مضارب المليين:
يقول الشيخ:
أريد أن أسألك
وأن تجيبني بصدق
جيلو: تفضل سيدي
الشيخ: هل صحيح، أن درويش قد تحدث عن ابنتي عدلة
في ساحة القبيلة، عند اجتماعكم للتسابق
جيلو: نعم، سيدي
عندها أمر الشيخ عيسى وجيلو بأن يذهبا
وأن يكتما الأمر بينهما
وقال:
ويحهم
أنا آويهم، وأحميهم، في قبيلتي، وهم يتكلمون عن شرفي...!
"اسم المترجم غير معروف من قبلنا"
وعندما يعجز درويش عن إقناع أبيه بالمشاركة،  ويؤكد له أن الحب قاس، وأليم، ويذكره كيف أنه كان يحب "خاتون" شقيقة الباشا نفسه، وكيف أنها قبلته وأخاه، بعد زيارة له وأبيه وشقيقه إلى ديارها، وقد قبل أبوه مكان قبلة الأميرة، شقيقة الباشا، ودمعت عيناه، بل يذكر أباه بمشهد جد مرعب، وهو أنه بعد سماعه، بموت حبيبته تلك، قهراً، لأنها زوجت بأحدهم في "الرَّها" بعد ثلاثة أيام فقط من زفافها إليه، اصطحب معه ولديه، و أمرهما، بمساعدته،  في نبش قبرها، ورغم أن جثتها كانت تنتنت، إلا أنه طلب من نجليه بأن يبتعدا، لينزل بمفرده إلى قبرها، إذ راح يناجيها، طالباً منها أن تنهض وتلحق به، من دون جدوى....!، وهو لم يفعل ذلك إلا لأن مواجهة الحب العظيم من ضروب المحال، ما جعل أباه يرضخ له، كي يعد عدته، ويتوجه إلى مضارب الباشا المللي، فيلحق به أبوه، مع آخرين، عسى أن يمنع ابنه من الوقوع في شراك الباشا،  مع عدد من أقرانه، زمن بينهم شقيقه سعدون، كما أن  عدلة نفسها تعرف أن هذا الإعلان هو مكيدة موجهة من أبيها ضد حبيبها،  لذلك، فهي تحاول، جاهدة،  بكل ما لديها من حنكة،  ودهاء أن تتدخل لثني أبيها، بل و عاشقها، عن الفكرة، لكنها، تفشل في محاولاتها المستميتة، كما هو حال والد درويش وبعض ذويه، تحت خيمة الباشا، إذ يقدم درويش على ارتشاف فنجان القهوة، عارفاً أنها قهوة موت حلمه، قهوة موته،  لكنه، لا يتقهقر، بل يعد عدته لمواجهة خصوم الملليين، كي يقتل الكثيرين منهم، ولا ينجو منهم إلا حصان شقيقه وأحد الشبان الأحد عشر الذين  تطوعوا معه، لخوض غمار هذه الحرب الخاسرة، في مواجهة الآلاف من المحاربين.
ثمة أحداث ثانوية كثيرة، تسير في موازاة مع حدثها الرئيس، وهي جميعها تنبىء بالمصير المؤكد لدرويش ومن معه، ومنهم شقيقه، بيد أنه لا يتراجع، ولا يقتنع البتة بكل المقترحات التي تعرض عليه، للتراجع عن المواجهة غير المتكافئة، ومنها مقترح صديقه قائد جيش العدو، بل ومحاولات أبي هذا القائد- وهو عربي- حيث يخطط لحصانه بالارتماء في حفرة، فتنكسر رجله، وتنهال عليه ضربات الرماح والسيوف، ويخرَّ صريعاً في ساحة المعركة، بيد أنه يطلب من صديقه قائد الجيش المعادي، أن ينظف وجهه، ويلبسه عباءته، لئلا تراه عدلة التي ستأتي لإلقاء النظرة الأخيرة عليه، وهو في حال يرثى له، فيستجيب صديقه للأمر، على عجلة من أمره، قبل أن يعود إلى دياره، خشية انتقام المليين والإيزيديين، حيث تصله عدلة، بعد أن تضع رأسه على ركبتيها، مجهشة في العويل، بينما هو يغازلها، إلى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة..
مؤكد، أن أي اختزال سردي لهذه الملحمة، على هذا النحو، إنما يفقدها الكثير من جمالياتها، و ملامحها المهمة التي صاغها مغنيها- رغم أن هناك سجال حول واقعيتها ولا واقعيتها- لأن هذه الملحمة استطاعت أن ترصد عبر التقاء: الرواية بالأغنية، تناول إحدى قصص الحب الأكثر شهرة في التراث الكردي الإيزيدي، كما أنها تعكس طبيعة الحياة، والعلاقات السائدة، في العهد العثماني، قبل أن يتم اقتسام كردستان، إلى أربعة أجزاء، بل إنها تبين سايكولوجيا الفارس الكردي، القهرمان الذي لا يقهر، حتى و لو كان في ذلك تجرع قهوة موته...!
وللحقيقة، فإن ثمة ظلماً محيقاً، حقيقياً،  كبيراً، لحق بالإيزيديين، من خلال بضعة وسبعين مجزرة مفتوحة، عامة، تم رصدها، ماعدا الأخريات، غير المرصودات. ولعلَّ في مطلع هذه المظالم التي لحقت بهم، على امتداد ما يكاد يقارب الأربعة عشر قرناً، و هو تاريخ ما سمي ب"فتوحات" الصحابي عياض بن غنم" الذي توفي في سنة عشرين هجرية عن ستين عاماً"  وقد شملت كردستان الكبرى، ومن بينها مناطق الإيزيديين، باعتبارهم كما يقول عنهم الكرد "خميرتهم" ونسخة أرومتهم-الأصلية- من دون ما لحق بديانتهم من عناصر دخيلة-وعلى نحو تدريجي- بفعل عوامل عزلتهم، لاسيما بعد بلوغ الصراع بين المسلمين، ذروته، بين الأمويين وأتباع علي، إذ انحازوا إلى الأمويين، واستقبلوا-لاحقاً- الشيخ عدي بن مسافر الذي تأثرت به ديانتهم، فتم إعلان أولى حرب عليهم من قبل الخليفة المعتصم" 796- 842 م "، ومن تلاه ممن حاربوهم لأسباب متعددة، وكانت فتوى العمادي مفتي الأستانة أبي سعود العمادي الذي قال أباح في النصف الثاني من القرن السادس عشر، قتلهم، وهو قد تم اعتماداً على  أكثر من فتوى، يؤكدها ما جاء في كتابي "كفاية الأخيار ورد المحتار، حيث ورد في الأول " أما من لا كتاب له ولا شبه كتاب كعبدة الأوثان والشمس والقمر ومن في معناهم والمرتد فلا يعقد له "أي الجزية" لأن الله تعالى أمر بقتل جميع المشركين"، وجاء في الثاني"ويدخل في عبادة الأوثان عبدة الشمس والنجوم...إلخ، فلا تحلّ مناكحتهم، ولا تؤكل ذبيحتهم، لأن ليس لهم كتاب سماوي، رغم  وجود وثيقة مهمة، تؤكد خطل كل هؤلاء التكفيريين بحق الإيزيديين،  كتبها أحمد بن تيمية"   661-728 "، رغم أن الرجل كان متشدداً، بل ورغم أن الأصوليات المتشددة، التكفيرية، وجدت في فتاويه، ورؤاه، منهجاً، التزموا به في ماقبل ولما يزل يأخذ لديهم مكانة مرموقة،  إذ أنه لا يقطع الخيط الأخير معهم، بعكس كردي-آخر- هو العمادي، بل إنه ليدعو لهم بالخير، ويحضهم على نهج الطريق الصحيح.
ومن أوجه الظلم التي لحقت بأصحاب هذه الديانة الكردية العريقة- وحين أقول: العريقة، فأنا أنطلق من جوهرها، لا مما لحق بها، عبر مراحل متعددة، بعد لوذ الإيزيديين بالجبال، وممارسة بعضهم ردود الفعل تجاه قتلتهم، من غير وجه حق، حيث نجد أن لهذه الديانة جذوراً تتناص مع ما هو سابق على الزردشتية، وعلى نحو أدق مع حضارة السومريين- كما يرى بعض باحثيهم- بل نجد  الكتابة الكردية الأولى التي كتبت بها نصوصهم الأولى  التي نجت من محارق الكتب الكردية والإيزيدية كما يوضح ذلك كتاب شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام سنة 865 لمؤلفه أحمد النبطي،وهي محفوظة في المكتبة الوطنية في دمشق، بل أنهم  مشغوفون بالسمو، والجمال، والحب، ومن بين ذلك ولعهم الكبير بالموسيقا، سواء أكان عبر آلة الدف، أوالشبابة، والمزمار، أوعبر آلة الكرد الموسيقية" الطنبور" هذه الآلة التي تدخل ضمن معجم مقدسات الإيزيديين.
 طقوس الماء
و ثلاثية البياض و الجمال و الحياة:

 يا ماء
 أأنت بلا عشق و حب؟
 تنثر أمواجك ,
 تنشرها في كل الإتجاهات بلا توقف
 وبلا سكينه
 لأي عشق ما زلت تهدر ؟
 ولأي زمن قادم سوف تستمر ؟
 قل لي بمن تولّهت
 لأعرف ما هي قصّتك
 لأعرف سبب ثورتك الدائمة
 قليلة وصغيرة كانت أم كبيرة
 لأعرف معنى هدير أمواجك
 ربما أعرف لمن كل هذه الطاعة ليلا ونهارا
 لا تنام لعشق من تنحني وتسهر
 لا يعتريك التعب
 و لا يغزوك النعاس
 في أحلك الليالي
بأمر من كل هذا الحراك
 لم تذهب أسئلة الفقهاء سدى
تبحث عن معناك
 ايها الماء
 فقد جاء الجواب في الفرقان
 أنت أيها الماء حملت عرش الله
 فقبل وجود السماء
 كنت أنا
جاوبني الماء
حيث استوى الإله الأكبر الخالد
 على عرشه فوق صفحتي أنا الماء
"غناء حسين شريفي"
ترجمة د. هجار شكاكي
يحتل الماء مكانة مقدسة لدى الإيزيديين، وكيف لا، وهو أداة الحياة، والخصب، والنقاء، والطهارة، ولعل سرَّ تقديس" كانيا سبي" يكمن في كونه البديل ل"زمزم" وبغض النظر عن الدخول في الإشكال التاريخي، حول أسبقية أحدهما على الآخر، بل وبغض النظرعن أن لالش كله، محج الإيزيديين، بديل للكعبة أم لا، حيث ثمة ما هو مشترك بين طقوس الحج في الديانتين: الإسلامية  أو الإيزيدية، لاسيما أن أي استنتاج تاريخي، لا يقلل من قيمة هذا المكان الذي طالما ذاد عنه الإيزيديون بدمائهم الزكية، ضد من حاولوا النيل منه، إساءة، أو محواً على حد سواء.
والماء هو روح الاخضرار، روح الربيع، روح شقائق النعمان- الزهر الأثير لديه- روح شجرة الزيتون المقدسة التي توقد بزيته الصافي قناديل هذا المعبد، حيث لا يسمح لأحد غير القوالين، وأسرهم، بجني الزيتون، و يقومون باستخراج عصارته المقدسة، بل النار هي مطهر الأرواح، وهو تجلّ للروح الإلهية، مادام أنه وراء النماء، وديمومة الكون والكائن، بل أن لهطله من السماء-والسماء جزء رئيس من الطبيعة- بل فضاء روح الخالق، يروي التراب الظامىء، وبه يشتل السندس في الأمداء، تتسامق الأشجار، كي تكون ظلاً وارفاً، مفردة فردوسية تمنح الفاكهة،  كما وبالماء ذاته، تولد البذرة، وتنمو السنبلة، وتثمر، حبات كثيرة، يصنع منها الرغيف الذي يحتل مكانته المرموقة في ميثولوجياهم.
لن يجد دارس الديانة الإيزيدية، ما يسجل عليهم، لولا ما أدخل إلى فضاء هذه الديانة زوراً، نتيجة عاملين اثنين، أحدهما ناتج عن ردود فعلهم تجاه الأغيار"، ممن حاولوا اسئصال جذورهم وديانتهم على حد سواء، وثانيهما نتيجة تلون هذه الديانة، في مراحل متفاوتة بآثار بعض العقائد، والديانات،  ولعل السبب الرئيس هو أن الإيزيدي اضطر إلى أن يخبىء نصوصه العقدية عمن ناصبوه العداء، واعتمد على ثقافة الصدر التي تناقلها القوالون، جيلاً بعد آخر، ما أدى بها إلى أن تخسر الكثير من ملامحها، بل وأن تضاف إليها عناصر غريبة، لا تمت بأي صلة إلى جوهرها.
يضاف إلى كل هذا، أن الإيزيديين مولعون باللون الأبيض، هذا اللون الذي له دلالاته الهائلة، فهو رمز النقاء، والبقاء، والصفاء، والشفافية، لون إزار الإيزيدي المفضل، بل اللون الذي يطلي به منزله، ومعبده، وأضرحة ومراقد شيوخه، وهو في الحقيقة لون بياض قلبه، وروحه، كما أنه محور في العملية الجمالية، بل إن الماء المقدس لديه، أبيض، صاف، هو الآخر.
يجد الباحث الممعن في مفردات ثقافة الإيزيديين، بل حضارتهم،  أنهم من هؤلاء الذين تفاعلوا مع ما هو محسوس من حولهم، ليكون ذلك-معراجاً- غير مسمى لهم، صوب منابع الجمال الأولى التي ترتبط بالخالق، الأسمى، وفي معرفة هذا الأمر ما ينسف كل النصوص التكفيرية التي سببت تاريخاً دامياً بحق هؤلاء المسالمين، الذين يعدون أحد العلامات الفارقة، الأصيلة، في الفسيفساء الشرقي، ولطالما غبنوا حقهم، وتم طمس ملامحهم، وتقديمهم في صور غير لائقة بإرثهم المجيد.

الملحمة المفتوحة:
صحيح، أن تراجيديا الإيزيديين، تتواصل، والتاريخ يتكرر، وعلى نحو أشد، لاسيما أن سلاح القاتل بات أكثر فتكاً، وضراوة، بعد أن كان لدى الفارس الإيزيدي، وأعدائه، المحيطين به، على حد سواء، سلاح واحد، وكانت البطولة الحقيقية:البأس، والشكيمة، والرجولة، هي فائضه الذي يتغلب عبره، على من يواجهه، أنى كان، ما دعاه يستمر، في حضوره على مسرح الحياة، دون أن تستأصل جذوره، أو تقتلع، من مكانه، كما خطط له ليس في البيت العالي، بل من لدن الخليفة المسلم، في عهد مبكر من تاريخ الإسلام، بيد أن القاتل المعاصر- وهو الأكثر جبناً وغدراً من سلفه القاتل- بيد أنه استطاع أن يستفيد من المنجز التكنولوجي ما بعد الحداثي، لاسيما في ما يتعلق بالأسلحة المتطورة، يجمع مابين ما هو "أمريكي" الصنع، وما هو "روسي" و"أوربي"، بل ويتخذ من هؤلاء، وممولين عرباً ومسلمين، في آن، سنداً لهم، ناهيك عن استظهارهم بشنائع نمط مستوحش من السلف، هذا السلف الذي لا يعترف به، ويستهدف هدم مراقده، وأضرحته، عادة، بيد أنه يتخذه قدوة حسنة، حين يتعلق الأمر بسفك دم الإيزيديين والكرد، وهو الأمر نفسه مع القرآن الذي يشكك به، و يتخذ منه محيطاً من أسانيد، وآيات، وهو يواصل حكم السيف على رقاب الأبرياء.
ورغم قماءة تاريخ الإبادة، بل الحرب المفتوحة ضد الإيزيديين، فإن ما تم-ونحن في الألفية الثالثة-  من حال حصار للإيزيديين، في كهوف الجبال، ومخابئها، بعد أن لاحقتهم فلول القتلة، المتوحشين، في جبل شنكال، إذ وصل الحال بالأبوين أن يجرحا جسديهما، كي يشرب أطفالهما الدم، ليحافظوا على حياتهم، يشكل نقلة بيانية في خط المجازر المرتكبة بحق الإيزيديين، لاسيما أن من بين  الأساليب الوحشية التي مورست ضدهم، دفنهم أحياء، وهو ما لم وقفت أمامه الأغنية، ذاهلة، غير قادرة على تناول بشاعات هذه الصور التي تنم عن ثقافة افتراسية، دنيئة، كارثية، تشكل لطخة عار على جبين العالم الذي تم كل ذلك، نتيجة صمته أمام استفحال السرطان الداعشي، بل أن الصورة الإلكترونية-ذاتها- استعصت على رصد كل ما يجري، لاسيما أن هناك، من هو عالق  في مخبئه الجبلي، هناك، ونحن لا حول لنا، ولا قوة، حين نتناول واقعه-هنا- تدويناً، وفي انتظار ملحمة جديدة يدونها العالم الحر، عن إحدى أمات المآسي الإنسانية التي تجري في شرق مطعون الشرف.
عدولة هي عدلة:
 *ورغم دخول الكرد حظيرة الإسلام طوعاً،  فإنه ينسب إلى عياض بن غنم قوله:  
من مـبلغ الأقـوام أن جـمـوعـنا *** حوت الجزيرة غير ذات رجام
جمعوا الجزيرة والغياب فــنفســوا *** عمن بحمــص غيابة القـدام
إن الأعـــزة والأكارم مـعشـر *** فضوا الجزيرة عن فراج الهــام
غلبوا الملـوك على الجزيرة فانتـهوا *** عن غزو من يأوي بلاد الشــام

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 5
تصويتات: 17


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات