القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مقالات: ذكرياتي عن حريق سينما عامودا...

 
السبت 13 تشرين الثاني 2010


دهام حسن

أن تكتب عن حريق سينما عامودا، يعني أن تحكي، أو تشهد على مأساة، لفت البلدة الصغيرة الوادعة، فأغرقتها عن بكرة أبيها بفاجعة لم يسلم منها أي بيت، أو أي طائفة، ( ففي كل بيت رنة وعويل )..
مآتم جنائزية، وبالجملة، ابتهال الآباء، لا لرد القضاء بل اللطف فيه، وعويل الثكالى الفواجع وصراخ الصبية والصبايا، على البراعم التي ذابت وذبلت، وقضت اصطلاء بالنار، فجاء قطافها قبل أوان تفتحها وإزهارها.... فلنعد إلى بداية الحكاية، وسأرويها كشاهد، متوخيا الوضوح والصدق، غايتي مقاربة الحقيقة ما أمكن، رغم أن الحقيقة تبقى يكتنفها الغموض، وأعلم أنني بهذا سوف أثير حفيظة البعض ضدي، ولكن لا بأس، ولا أخفيكم أني تريثت، وترددت في البدء، في الحديث أو الخوض في هذه المسألة، على ما لفها من أقاويل وحكايات وغموض،


ويبقى حديثي هذا شهادة غير مكتملة، وأهالي عامودا الذين عاينوا المأساة وعاشوها بإمكانهم أن يقولوا الكثير، ويحصروا المأساة في دائرة حجمها، من دون تصغير أو تقليل من شأن الفاجعة الكبيرة، ومن دون مبالغة في التصور والتخيل، ورمي سهام الاتهام بهذا الاتجاه أو ذاك، أو حتى منح صك البراءة لهذا أو ذاك من دون أساس وثائقي ثبوتي، كل هذا لا يجوز برأيي.. ومن طرفي لم أحاول أن أستجلي آراء أهالي عامودا، واكتفيت بشهادتي غير المكتملة، تاركا للمعنيين،أن يسعفوها بسد الثغرات، وردم الفجوات إن رغبوا أن تكتمل المسألة، فعند بعضهم ــ ربما ــ الخبر اليقين..! فلنعد إلى البداية من جديد....


جاب بعض المكلفين، مدارس عامودا، مدرسة تلو مدرسة، داعين التلاميذ للذهاب إلى السينما الوحيدة في المدينة، يحسّسونهم بواجبهم تجاه ثورة الجزائر، دون قسر، فريع الدخل، كان مخصصا لدعم ثورة الجزائر، كنت تلميذا في الأول الإعدادي، (الصف السابع ) ولم تكن في عامودا حتى ذاك التاريخ مدرسة ثانوية...كانت توجد مدرسة إعدادية واحدة فقط للبنين، وواحدة أخرى مثلها للبنات، وبضع مدارس للمرحلة الابتدائية، كنت بحق شغوفا بالسينما، ولكن إحساسي السياسي ـ رغم صغر سني ـ شدني ألا أسارع لقطع التذاكر من أيدي هؤلاء المكلفين الذين جالوا على المدارس، فقد كنا على غير وفاق سياسي معهم، فأنا من اليسار حيث رفاقنا في سجن المزة، وهم محسوبون على السلطة، مع التأكيد على تعاطفنا الشديد مع ثورة الجزائر حينها، كما إن البلدة بالذات ارتدت الطابع اليساري آنذاك، مع نشاط ملحوظ لحركة (الأخوان المسلمون)، وأيضا فالحركة السياسية الكردية كانت نشطة، والمشاعر القومية المتأججة قد سبقت ولادة أول تنظيم سياسي واعد، حيث لم يمض على تأسيسه سوى ثلاث سنوات وبضعة أشهر، فقد ظهرت الحركة كأول تنظيم سياسي كردي في سوريا يبصر النور في صيف عام 1957وجاء حريق السينما في خريف عام 1960 ...


تناولت ليرة من سلمان أبو زيد ، ( أبو عنتر ) كان معي في الصف، وهو من أخوالي، لأقطع التذاكر، لأربعة منا، حيث كانت قيمة البطاقة بربع ليرة سورية، ولما لم يحاذ ني قاطع التذاكر، أنفت أن أمضي إليه، وما أن أدبر، وولى خارج القاعة، حتى ناولت الليرة لخالي، وقلت له: لن نذهب إلى السينما...


في أمسية ذلك اليوم ـ على ما يرجح ـ من خريف عام 1960 باغتنا الفتى مهدي إسماعيل ملا أحمد، يقتحم علينا الغرفة، هلعا مضطربا، يهذي كالمجنون، وكنا في دار عمه ( علي ملا ) قائلا بالترجمة الحرفية لمعنى قوله: احترقت السينما، الكل احترقوا، ونجوت وحدي..! وقع النبأ كالصاعقة علينا جميعا، لاسيما أن داود وشقيقه يحيى ابني (علي ملا )، كانا في السينما، وقريبهم سعد الدين العابد(هو الآن طبيب نسائية في مدينة الحسكة )، وما زالت آثار الحريق بادية على أنحاء من جسمه، فهرعنا باتجاه السينما راكضين، حتى بلغناها، وكان قد قضي الأمر، حيث أتت النيران على كل شيء ، وتهدم مبنى السينما، لمحت جثتين أو أكثر مفحمة، يتفحص رجلان إحدى الجثث، ويتكهن أحدهما، بأنها ربما تكون لابن فلان، كانت المياه قد غطت المكان، فشعرت برعدة كهربائية ( كونتاك ) ويبدو أن سيري في المكان الرطب حيث الماء، كان سبب هذه الرعدة، لوجود سلك كهربائي .!


ولا يفوتنا هنا من أن نتذكر، أحد رجالات عامودا الشهام، وهو( محمد سعيد آغا الدقوري ) * الذي ما أن سمع بشبّ الحريق، حتى سارع باتجاه السينما واقتحم الباب إلى داخل صالة عرض الفيلم، فأنقذ ما أمكنه إنقاذه، لكن النار كانت شرهة نهمة، فلم تمهله إلا قليلا، حتى تهاوى البناء، فسقط هو أيضا شهيد الشهامة والشرف ، ومن وحي هذه المناسبة وددت أن أزجي هذه الأبيات القليلة لصرح ضريحه الراقد على ربوة ليس بمبعدة عن شرمولا، سوى فراسخ من جهة الغرب : ( * )القصيدة كاملة منشورة في بعض المواقع...


كان العويل لا ينقطع، والناس يمضون أرتالا باتجاه السينما؛ من الأصوات لا زلت أذكر صوتا، ذا نبرة خاصة متميزة، يبتهل إلى الله بالدعاء، هو من بيت ( وضحية ــ خاتوني )، نسيت اسمه، وكنت أعرفه بالوجه وبالاسم، على العموم هو معروف من قبل أهالي عامودا جميعهم؛ صوت آخر شدني إليه، وهزني ألما، كان يصرخ، ويهتف باسم ابنه ( ناصر، ناصر ) الذي قضى كأحد ضحايا الحريق، فقيل لي فيما بعد أنه رئيس مخفر للمكافحة، قبل أيام قال لي أحدهم عندما زارني في البيت : خرجت من السينما مذعورا، فأخذني من يدي شرطي، حتى استدل عليّ أخي، ولم يسلمني إياه إلا بعد أن سألني فيما إذا كان هذا أخي أم لا.؟ قال لي أحد الناجين يومها ، وهو داود علي ملا أحمد، حيث كنت أدرس، قال : جرني أحدهم من ذراعي، فانسلخ جلدي المسلوق حرقا، فرجوته أن يعاود الكرة، ثم شدني ثانية وأخرجني، لتكتب لي حياة جديدة بفضله،


شهد صباح اليوم التالي زخات من المطر الخفيف، أو ربما المطر قد سقط ليلا ، وكانت(رائحة الشيّ) المنبعثة من الجثث المتفحمة التي تم حملها ونقلها إلى المساجد، أو إلى المسجد الشافعي الكبير وحده ، كما نقل لي أحدهم المعلومة مؤخرا ، ليتعرف علي الجثث ذوو الضحايا، كانت الرائحة تصدم الأنوف، هكذا تهيأ لي، ربما آخر يقول غير ذلك.. كانت الضحايا من كافة الطوائف الاجتماعية،( أكراد، عرب من الخواتنة خاصة، من المسيحية اثنان أحدهما قضى حرقا والثاني مات اختناقا، مردنلية، محلمية، وبتسميات وبألقاب أخرى كثيرة، معروفة عامودا بهكذا نماذج بشرية، متعددة الألقاب والمنابت، وهم من أبناء كافة الأطياف السياسية، كانت الأكثرية المطلقة من الضحايا أكراد، لأن عامودا بغالبية سكانها الساحقة أكراد، فنسبتهم تربو على 95 بالمئة من تعداد السكان القاطنين فيها، بمن فيهم الموظفون والشرطة، من خارج المدينة...


جاء وفد من دمشق، فجاب المقابر حيث دفنت الضحايا، وكان يتنقل من مكان إلى آخر، وقتها لمحت فتى يافعا، حديث السن، ومعه بضعة شبان في سنه، وفي مقربة من الوفد، لاحظته يهتف والآخرون الذين رافقوه يرددون وراءه ما يقول، كان يهتف بهذه العبارة: نطالب بتحقيق عادل، كررها غير مرة وفي أكثر من موقع، وحمّل جمال عبد الناصر، أو من يمثلونه أسباب الحريق، والوفد يصغي دون أن يمنعهم... كان هذا الفتى هو المرحوم عصمت سيدا، على ما يرجح.. وأذكر أنني قرأت عبارة مؤثرة على شاهدة قبر تقول: ( أنا وأخي في قبر واحد )..
سمعت عن مساعدات مالية، وصلت البلاد مقدمة من دول العالم ، لكن ما سلّمت لذوي الضحايا ــ كما نقل إلينا ــ كانت مبالغ جدا زهيدة، بحيث لا تذكر...
تعليق وشهادة غير مكتملة:
مبنى السينما، لا يمتلك مواصفات صالحة لأن يكون دارا للسينما، فهو صغير، ومبنيّ من الطين، ألبس المبنى من الداخل من كافة جوانبه، بأردية وستائر دون ترتيب، ربما للتغطية على العيوب، أو لتعطي جمالية، وربما لشيء آخر؛ سقف البناء من خشب بأسانيد وعوارض حديدية، تطلق عليها بالكردية لفظة ( د مّـر ) وهي من بقايا عواميد سكك القطار الحديدية؛ باب المدخل لصالة العرض يعلو عن الأرض، فتكون بالتالي أرض الغرفة من الداخل منخفضة، الباب مؤلف من درفتين... المحرك (الموتور ) يبدو أنه كان بحاجة إلى تفحص، إن لم يكن بحاجة إلى صيانة، عمل بتواصل عدة وجبات أي على غير عادته، وفوق طاقته من دون توقف، ليحضر الفيلم أكبر عدد ممكن، ومن المفارقات أن يكون عنوان الفيلم كما قيل لي قبل أيام ـ جريمة في منتصف الليل ـ... صاحب السينما ما زلت أذكر اسمه هو ( أحمد حسنات ) ثم قيل بأن شخصا آخر يشاركه هو ( عزو ماكو )... العامل أو المشرف على تشغيل الفيلم اسمه ( قيا ) ولم يشر إلى هؤلاء حتى بأصابع الشك، أوالاتهام ، لمعرفة أهالي عامودا بهم وبأنهم، لن يقبلوا، ولن يرضوا،أن يتورطوا بجريمة فظيعة بشعة، وبهذا السيناريو...


الشرارة الأولى كانت كفيلة بالتهاب القاعة كلها نارا وحريقا ودمارا وموتا؛ الستائر مشت فيها النيران سريعا، وكانت تتساقط على الصبية كقطع ملتهبة، فتحرق ما تقع عليه.. سقف الصالة توهج باللهيب، هلع الأطفال ورعبهم الشديد، وتدافعهم وتساقطهم على باب المدخل، أدى إلى سدّ الباب بدرفتيه، وفي جو خانق من الدخان، كل هذا وغيره كان سببا في موت عدد كبير من الصبية حرقا وبعضهم اختناقا، وأيضا فإن عددا من الأطفال ما أن تمكنوا من النجاة، وفلتوا من الحريق، حتى سقطوا في قعر جب في باحة مبنى السينما، المبنى تهاوى سريعا.. الناجون كانوا كثرا، لكن عدد الضحايا كان كبيرا ..! فالمصاب بهذا جلل وعظيم؛ لكن رغم هذا كانت هناك عدم الدقة في تبيان عدد الضحايا والمبالغة فيه، وهذا التقدير المبالغ فيه جاء لاحقا، أهالي عامودا وحدهم، قادرون على حصر العدد وضبطه، سمعت من مصدرين حياديين، لم يقللا من شأن الحدث الفاجعة ولم يبالغا فيه، ما قالاه كلاهما عن عدد الضحايا، كان دون العدد المنشور في الصحافة وفي المواقع الالكترونية بكثير، أحدهما نقل عن والده بأنه أشرف على طهارة كل الجثث، أو فلنقل الطقوس الدينية في مثل هكذا حالات التي تسبق الدفن، وكان هذا في المسجد الشافعي الكبير كما كان يسمّى وإلى اليوم....


بعد أن تفرغت من كتابة هذا المقال، نقل لي أحدهم أن أحد عشر شخصا من تنظيم كردي، أو ربما التنظيم الوحيد الموجود آنذاك، لأن الحزب المؤسس لم يتفرع بعد إلى مجموعة أحزاب، كما هي الحال اليوم؛ قيل أن هؤلاء الأحد عشر عقدوا لقاء مشهودا لتاريخية الحدث، وكانت محصلة النقاشات، أن لا أحد مسؤول مسؤولية مباشرة عن الحريق، أي أن الحريق ليس من تدبير أحد وبشكل مقصود... كما حدثني بعد ذلك الدكتور سعد الدين العابد قائلا: بعد أن أخذ الهلع اندفع الجميع غريزيا إلى الباب الرئيسي ، واستطرد قائلا أني لاحظت بابا آخر مشرعا مفتوحا لم ينتبه إليه أحد بسبب الهلع الذي استبد بنا جميعا فكلهم سارعوا باتجاه الباب الرئيسي حيث تساقطوا بعد أن سد الباب لتدافعهم فخرجت منه بكل سهولة بعد أن تهدم جزء من المبنى... ثم إن الحالة السياسية لم تكن تستدعي قيام جهة ما بفعل إجرامي بهذا الحجم، الحكم الناصري لم يكن محبذا لدى الغالبية العظمى من السكان، لكن أيضا لم تكن لهم سابقة بهذا الرعب والفظاعة، لكل هذا ولغيرها من الأسباب، أقول مرجّحا، إن الحريق كان قضاء وقدرا، وليس بفعل فاعل، أو برصد وتصميم من جهة ما، أو بتدبير من أحد، أو إذا كان هناك متورطون؛ ربما الحالة التي وصفنا بها مبنى السينما، وحالة محرك تشغيل الفيلم لعدة مرات وفوق طاقته، كان من الأسباب القوية لنشوب الحريق، إثر انطلاق شرارة ربما.. ومع ذلك أنا لا أستطيع أن أبرئ أحدا، مثلما لا أستطيع أن أتـّهم، أو أجرّم أحدا... ولكن ما أرويه هنا من رأي، أو مشاهدة، هو نابع أساسا، من قناعاتي، وإحساسي، فحسب، وليس بوازع آخر..!


 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 2.55
تصويتات: 18


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات